شباك

[شباك][twocolumns]

هل أكله الذئب؟


عَرِفَتْ أنّه لن يحاول التواصل معها مرة أخرى. كتبت له خطابًا يائسًا ربما عاد إليها، انتظرت قلقة الرد على توددها إليه ثلاثة ليالٍ، لكنه لم يجئ.
خلافها الأساسي مع ابنها، خلاصته، أنه لا يريد الزواج من الفتاة التي اختارتها له. حلوة، صغيرة، من أسرة مرموقة. ظنّت أن بياضها الفاتن سيضيئ حياته، وأنّ عيناها الواسعتين الغارقتين في السواد الساحر ، سيكونان قنديل عشقه الساهر. تلك المقاييس لا يراها الولد الغضوب، الذي هجر ـ أخيرًا ـ بيت أبيه، المتوفى مُذ أعوام.
ذبلت من كثرة البكاء. بيتها لم يعد كما هو على حاله. لقد سكنته الوحشة، رغم أثاثه المذّهب، والسجاجيد الفاخرة. النجف ومصابيح الإضاءة الإليكترونية أصبحا يشعان ألوانًا من الظلام في غيابه.
جلست مكوّرة، كحمامة بللها المطر وحاصرها البرد، يدور أمام عينيها شريط بحثها الصادق عنه في كل الأماكن المحتمل التواجد فيها. دهشة مديره في العمل من صدمتها بعد أن أخبرها أنّ ابنها حصل على إجازة مفتوحة بلا راتب. فزع أصدقاؤه عندما وجدوا أمه تسأل عنه. تليفونه الذي أقفل. حسابه المعطل على "فيس بوك". محاضر الشرطة تتنكر وجوده، وأسرّة المشافى لم تعرف دفء جسده، ولا ذاق بدنه برودة المشارح!
أختفى الولد.
"هل أكله الذئب؟"
في الليلة الثامنة من الغياب، انتبهت السيدة المسنة إلى أنّ لابنها حجرة لم تطئها منذ الاختفاء العظيم. أشعلت الأضواء، بكت لّما وجدت بيجامته منتصبة على شماعته الطولية، الغرفة مسكونة برائحته. أنفاسه تعبّق كل الكتلات الفارغة. خصوصية الأدراج، بهو الدواليب، أرفف المكتبة، كل تفاصيل غرفته تعلن ـ كالأجراس ـ أنّ الولد كان هنا ورحل عمّا قريب، لكنها لا تعرف ـ ولا على وجة التقريب حتى ـ متى سيعود!
"هل أكله الحب؟"
أوجع قلب الولد تجارب كثيرة، كانت أمه تشعر مع كل تجربة بتغير كيمياء جسد ابنها، لم يكن يخبرها بأيّا من تلك التجارب، لكنها تشمّها في تقلب حاله بين الفرحة والنشوة والألم، والياس؛ ثم انكسار الروح على أعتاب الفرق.
جهادت المرأة من أجل استقرار قلب ابنها، استجلبت له كل الجميلات علَّ وعسى يرضى، وفشلت، كما كان يفشل بالضبط في كل تجاربه.
"لا لا، القصة أكبر بكثير من غضب ورفض الولد لضغوط مارستُها عليه لقبول العروس"
الصدامات بين الولد وأمه ليست وليدة تلك الزيجة، ولا فعل مستحدث. خلاف عميق موجود بينهما، وحب وامتنان عميقين يلفهما أيضا، كلاهما يريد أن يُكيّف الحياة على مقاسه، وكلاهما لا يخضع للآخر، وبين الشد والجذب غالبًا ما تتمزق العلاقات.
"ما العمل؟"
في الليلة الثلاثين من الغياب العظيم، شحب وجة المرأة المسنة، التي سكنت غرفته لتتشرب روحه الذائبة في الهواء. في ضوء الغرفة الذهبى الخافت (المفضل له) خطف بصرها  ـ الذى أجهده البكاء ـ حمامة تقف على مرآة التسريحة. ارتجفت، بسملت، دققت النظر، فاكتشفت أنّها ورقة مثبته في منتصف المرآة. بخُطى مضطربة وصلت لها، حررتها من لاصقها الضعيف، وطالعتها، فوجدتها مذركشة برسومات.
لم تتعلم المرأة القراءة ولا الكتابة، لكنها كانت ذكية بما فيه الكفاية، وأجدادها الفراعنة كانوا يتكلمون بالرسم، وها هو ابنها يردها إلى الوراء الآف السنين بتلك الرسالة.
أعلى يمين الصفحة مجسم طفولي لامرأة ناضجة، يتدلى من بين ساقيها فيما يشبه الحبل، يدور دورة في الهواء، هابطًا ليصنع "بابيون" ثم يسقط الحبل إلى منتصف الصفحة ليشكل دائرة مغلقة معقدة عند إحدى أطرفها، مكونة شكل دمعة.
فيما قال بعض رجال المباحث أنّها قد تكون مجسم بسيط لمشنقة.
قصة ـ أحمد الرومي

برواز

[برواز][bigposts]