شباك

[شباك][twocolumns]

هل الطريق إلى الجنّة مفروش بالسندوتشات؟


«كريسماس المسلمين» محاكاة إثنوغرافية لأكل ليلة عيد الميلاد

ثلاثة عقود عشتها مسلمًا، أتبع تعاليم ديني وطقوسه الروحية بقدر ما في وسعي، لم أفكر يومًا أن أجرب أن أكون من معتنقي ديانة أخرى، لوصولي إلى حالة من الاستقرار الذهني والنفسي مع فكرة الدين ذاته، فأنا مؤمن أن عصب كل الأديان واحد، غايته تأهيل الإنسان للإنسانية.
كتب - أحمد الرومي
 بعد هذه المقدمة الإيمانية السمحة، سأحكي لكم تفاصيل معايشتي لعشاء «الاحتفال بالكريسماس» على الطريقة المسيحية، وهى عزومة دعتني لها الزميلة «نرمين نزار» مع رفقاء آخرين، أقامتها على شرف ورشة «إثنوغرافيا الأكل الديني» التي نظمها مركز الصورة المعاصر، بنسخها الثلاثة.

لم أعرف الكثير عن الأكل المسيحي أو عن عادات المسيحيين في الطعام - رُغم أنَّ لي أصدقاء أقباط كثر - قد يكون السبب حالة الخصوصية الصموتة التي تصاحب المسيحيين خلال ممارستهم طقوسهم. مثلًا كنت أعرف بصيامهم صدفة عندما تطلب مني زميلتي «سوزي شكري» أن أجلب لها معي علبة كشري - ديليڤري - إضافية لأنها صائمة، وكنت أخبرها مازحًا أني دائم الصيام مثلها لعشقي ومداومتي على أكل الكشري.
فعندما كنت صغيرًا كنت أرى في «الأكل الصيامي» فكرة كوميدية، فدماغي الإسلامية قد هُندِست على أن الصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب مدة تقارب ثلثي اليوم، لذا كنت أحسد زملائي المسيحيين على كون أن «صيامهم فيه أكل».
وبمرور الوقت؛ وباتساع معارفي بتفاصيل الأكل الصيامي المسيحي، التي توّجت بقراءتي كتاب «غذاء للقبطي» لمؤلفه شارل عقل، أدركت مدى صعوبة الصوم المسيحي، كونه عامرًا بالتفاصيل، فالصيام في المسيحية قائم على الإتاحة المشروطة، بخلاف صيام المسلمين الأكثر شمولية وعمومية في تطبيقه (الامتناع عن كل ما هو طعام وشراب، ثم الإنفتاح على كل ما هو طعام وشراب).
بسيطة خالص.
والمعرفة وحدها لا تكوّن الخبرة، بل يتحقق الاكتمال بالتجربة، لذا وجدت أنَّ «عزومة الكريسماس» قد تحمل أجواءًا مشابهة لعزومات الكريسماس القبطية، خصوصًا أني لم أُدع من قبل لأي عزومة لها خصوصية مسيحية في بيت أحد من معارفي الأقباط.
دخلت العزومة بقلبٍ مفتوح وشهية شغوفة لاكتشاف صنوفًا من الأكل القبطي الشهي، الذي يخفونه عنّا، تاركين لنا طعامنا الإسلامي العامر بالفتة، ولحم الضأن، والشوربة الدسمة الملغمة بقطع اللحم المسلوق بعناية، وغيرها من المشهّيات والمسكّرات. دخلت العزومة بروح توّاقة للتجربة؛ رغم أن جميع مَن يشارك في العشاء (الداعين والمدعوين) مسلمين، عدى زميلي «چورچ» طبعًا. ليكون الاحتفال جديرًا بأن أطلق عليه «كريسماس المسلمين».
على المائدة ارتصت الاطباق والطواجن المختلفة، جلت بنظري بينها باحثًا عن أكلة مسيحية أبلّ بها ريق شغفي وشهيتي، لكني لم أستطع تمييزها.
فوسط السفرة كان هناك طبق «محشي كرنب»، طبق «مسلطح»، مفروش بفخر استمده من شعوره بأنه «مركز الكون» في ذهنية المصريين بكل طوائفهم.
يجاوره - أعلى يمين السفرة - طبق من الأرز شاهق البياض، يزاحمه طاجن لحمة بالبصل.
وفي الركن الشمالي الغربي من السفرة استقر طبقًا زجاجيًا نصف كروي، معبأ بسلطة خضراء أعدها «علي هاني» بعناية، إذ كان حريصًا على أن تكون الكزبرة الخضراء مكون رئيس فيها، وأن تكون على قدر كبير من الطازجة. كان حاضرًا أيضًا على المائدة نوعًا آخر من السلطة؛ أعدته «طاهرة طارق» بخبرة، استلب انتباهي حبوب الرمان المبدورة فوق واجهة السلطة والموزّعة في أحشاء الطبق.
وكان لحضور البذنجان خصوصيته، كون أنّ «مروة عادل» طبخته «طاجن مسقعة» ولكن على الطريقة الليبية.
وفي صينية مستديرة طهت «أميرة موسي» أجنحة دجاج بصوص غامق اللون. بينما أعدت «طاهرة» أيضًا طاجن سجق بصوص دبس الرمان، لي عنه حديث خاص لاحقًا.
لم يبق على السفرة صنفًا لم أذكره - بذاكرتي المتواضعة - سوى صينية شرائح البطاطس بالكريمة، كانت تجلس باستكانة وكأنها تشعر بالغربة في هذه الوليمة.
بدأنا الأكل، دقائق ونسف المعازيم «طاجن السجق» الشهي، ذو الطعم الحرّيف المشوب بالشعبية والمتأنّق بصوص دبس الرمان الطبقي، فكان هذا الصنف جزءًا رئيسًا من وجبتي، تلاه أجنحة الدجاج المغموسة في الصوص الغامق - الذي لا أعرف كَنْهه - ورُغم أنَّ مذاقه لذيذ إلا أنّ شيئًا في تكوينه جعل طعمه لاذعًا، وهو ما شوش على طعامته. الأرز الأبيض - طبعًا - كان مكوّن رئيس في وجبتي، بطعمه المتسامح مع كل الأطعمة تقريبًا، يقبل الآخر بغير قيد أو شرط؛ ليعقد معه شراكة في رحلة الأكل المؤقتة جدًا.
أتممت وجبتي إلا ربع، وقد تركت المساحة الباقية في معدتي لأتذوّق باقي أصناف الطعام، وقد خبرتها جيدًا، وكانت لذيذة، لكني لم أندم على ضمّ أو تفويت صنف منهم ليكون بديلًا عن مكونات وجبتي التي أختارتها.
المذهل في نهاية العشاء أني لمحت طبق «محشي الكرنب» قد أصيب بإحباط مدوي، إذ لم يقربه أحد تقريبًا، وتحطمت أسطورته على أعتاب هذا العشاء النبيل.
ولأن علاقتي بالطعام مزاجية بدرجة كبيرة، تجدني صموتًا على أي سفرة، لا أتكلم، قد أسمع ما يدور حولي جيدًا لكني لا أشارك، حواسي حينها تتجه بتركيز إلى ما يدور في فمي، فيما يشبه الغيبوبة الإدراكية.
بعد أن أنتهيت من العشاء وحلّيت بقطعتين معتبرتين من صينية القرع العسلي بالبشاميل التي أبدعتها «نرمين»، أنطلق بداخلي سؤالًا مدويًا:
«هو فين أكل المسيحيين؟»
لقد كانت السفرة عامرة بصنوف من طعام أتناوله باستمرار في بيتي كمسلم، لم يكن من بينها صنفًا يمكن أن يسمى «أكل مسيحي» جميع تلك الأصناف يمكن أن توضع على موائد الدينيين واللادينيين أيضًا.
إذًا، لماذا يصوّر البعض أن هناك أكل مسيحي وآخر مسلم وغيره يهودي ورابع بوذي؟
الحقيقة - وهذا رأيي - أن «تطييف» الأكل (أي جعله طائفيًا) هو صناعة بشرية بامتياز، لا علاقة له بالدين، رؤوسنا وخبراتنا وأهوائنا هي مَن تطوّع الأكل ليكون صالحًا لمعتقدات «الأكيل».
فطاجن المسقعة الليبية الذي أعدته «مروة»، مثلًا، هو أكلة تصلح للصائم المسيحي، ولا تصلح له في نفس ذات الطاجن، إذا رُشَّ على وجهه بعضًا من اللحم المفروم، حينها سينحيه المؤمن المسيحي جانبًا، لكنه سيجرّه جرّا (نفس الطاجن أبو لحمة) بعد الساعة الثانية عشر صباحًا ليلة عيد الميلاد ليكون وجبة مسيحية مؤمنة يتناولها نفس المؤمن المسيحي.
«الأكل الديني» (مسيحيًا كان أو مسلمًا أو أي ديانة أخري) هو صناعة بشرية، روّج لها الإنسان وفخّم فيها للتدليل لذاته ولمجتمعه أنه قريب من الله. لكنّ الأكل بمعناه المطلق لا يُدخل آكله الجنّة، ولا يُذهب بمتناوله إلى النار، فلو كان هذا الكلام حقيقيًا لأصبح من السهل على الناس أن يكونوا صالحين.
صدقوني! إنَّ الطريق إلى الجنّة ليس مفروشًا بالسندوتشات.

برواز

[برواز][bigposts]