البلاستيك يأكل «حلاوة» المولد!
كتب ـ أحمد الرومي
هل
فكرت يومًا أن تأكل البلاستيك؟
هل
تصورت قبل ذلك أنه قد تجىء عليك لحظة يجري فيها ريقك اشتهاءًا لـ «عروسة مولد»
مصنوعة من البولي إثيلين؟ ليس هذا فحسب، بل وتطعمها لمن تحب!
دعك
من ذلك كله، أتتخيل أن العرائس الحلاوة ـ المسكرة جدًا ـ أصبحت مُحرّمة ـ صحيًا ـ
على الأفواه؟ هل تدرك أن كل تلك العادات ـ بمراسمها الدينية والثقافية الممتدة ـ
تتحلل رويدًا رويدًا؟ تمامًا مثل المركبات العضوية، ليرسخ فى الأرض والذاكرة
والبيوت عادات مدهونة بثقافات بديلة؟ قد «تسيح»، وقد تتغير معلمها، لكنها ـ على ما
يبدو ـ أصبحت هى الأقوى والأجدر على البقاء.
تلك
التساؤلات؛ وأكثر، تزاحمت فى رأسي خلال معايشتي لسوق بيع «حلوى مولد النبي»،
الواقع في وسط العاصمة، وتحديدًا، شارع "باب البحر" الكائن بحي باب
الشعرية، أحد أهم مراكز صنع وبيع هذا النوع من الحلوى المصرية ـ الإسلامية بالدرجة
الأولي.
ذلك
المكان عشت فيه قرابة 90 دقيقة، أنفقتها فى السير داخل حواري ضيقة، هى مركز بيع
«حلوى مولد النبي»، حواري ثعبانية ملتوية، تتصارع فيها أبدان الزبائن والباعة مع
سيارات و«موتوسيكلات» تخترق تلك الشوارع، في الغالب لنقل بضاعة أو خامات، من وإلى
الصُنّاع. يرتادها زبائن ينتمون من هيئتهم إلى الطبقى الوسطى الدنيا أو الطبقة
الفقيرة العليا.
للوهلة
الأولى لفت انتباهي الحضور الطاغي للمجسمات التي تجسد بدائل عصرية ومتطورة لـ
«العروسة» و«الحصان» الحلاوة التقليديان؛ المصنوعان كليتًا من السكر. مجسمات تحمل
طابعًا أوروبيًا، وفي أحيان أخرى شرق أسيويًا، وذلك من حيث الشكل. وقد أُخضِعَت
تلك المجسمات لعمليات تمصير حثيثة من قِبل الصُنّاع لإرضاء ذوق الزبون المصري
المشبع فكريا بـ «مفاهيم العولمة» لدرجة أنها طفحت - لا إراديًا - على نمطه الإستهلاكي.
كان
لافتًا في معقل صانعي وبائعي «حلوى مولد النبي» غياب الحضور القوي لقطع الحلوى
المتعارف عليها (ملبن وحمصية وفولية وسمسمية... إلخ)، إذ يسيطر على سوق البيع
والشراء «مجسمات عرائس» مصنوعة من خام البلاستيك، مستوردة من الخارج، لها عيون
زرقاء وشعر أصفر، لا تشبه الصفات المميزة للمصريين. "مجسمات" هى في
الأصل لعب أطفال، تحولت بفعل الصُنّاع إلى "عرايس مولد" (غالبًا ما
تُهدى إلى ناضجين) بعدما ألبسوها فساتين من «التُلّ» المصبوغ بألوان زاهية،
وبامتدادات قد تفوق حجم «العروسة» البلاستيكية ثلاثة أو أربعة أضاعفها. وهي محاولة
من الصُنّاع لإكسابها نوعًا من الفخامة والضخامة، ليكون مبررًا لتسعيرها للمستهلك
بقيمة نقدية أغلى من مجسم العروسة التي حجم فستانها أقل.
تتراوح
أسعار «العرايس» ما بين 50 جنيهًا و200 جنيه، إذ تباع العروسة الأقل في السعر بلا
تعليب أو تغليف، بينما تحظى «العرائس المغلفة» بمكانة متقدمة، وقد يستعيض الصانع
التغليف بوضع العروس وسط حيّز ضخم، مثل العروسة التي وضعها الصانع فى منصة أشبه بـ
«الهودج» الذي يُثبّت فوق الجمال لنقل المرأة لبيت زوجها يوم عُرسها، أو يدخل
عليها تعديلًا في التصميم ليحول قاعدة العروس إلى سلّة تفتح وتغلق، يمكن أن توضع
بها قطع الحلوى.
عند
الصانع الأخير استرعى انتباهي مجسمين لـ «عروس» و«عريس» موضوعين فى علبة
بلاستيكية، اسطوانية، شفافة، يظهر فيها مجسم الرجل بحجم أضئل من حجم مجسم المرأة،
وأقصر قامة منها. ما سحب انتباهي إلى حقيقة أنّ مجسمات الرجل تُطلّ في السوق على
استحياء، بل قد أُجريَ عليها تعديلات تشريحية لافتة.
فعرائس
الذكور المعروضة للبيع كانت في الأصل مجسمات لـ «عرائس نسائية» ولكنّ الصُنّاع
أخضعوها لعمليات «عبور جنسي»، فخطّوا لها ـ بأقلام رسم ـ حواجب سوداء سميكة، وكذلك
شوارب، لكنها ليست من النوع المَبْرُوم والمرتفع إلى أعلى الراسخة في الأذهان عن
صورة الرجل المصري. بل كانت الشوارب مرسومة ساقطة لأسفل تكاد تشبه ال «دوجلاس»،
وقد أمطوه حصان، بعد أن ألبسوه زيّا أشبه لملابس الرجال في دول شرق أسيا، لتكون
محصلة تذكير المجسم هي هيئة رجل لا يمت لصورة الرجل المصري بصلة، ورغم ذلك كان
يباع بسعر 200 جنيه، رغم ضئآلة حجمه.
أمام
تلك المحال المنخرطة في سباق تصنيع مستعر، يركز بالدرجة الأولى على المجسمات
«الچندرية»، كان هناك بائعين يفترشون الطريق ببضاعة مغايرة، تسمح لهم بالتواجد
وخلق مساحة للرزق. منهم بائع كان يعرض مجسمات لـ "جمل" مصنوعة من الفرو.
بفحص أحدها وجدت عليه بيانات المُصنّع الأصلي (صنع في الصين)، لم يخضعه البائع لأي
عمليات عبور تغيّر من هويته، ولم يحاول تمصيره، إذ قد يكون اكتفى برمزيته العربية
ـ الإسلامية التي تُعد مسوغًا منطقيًا لبيعه في هذه المناسبة الدينية بسعر 80
جنيهًا.
على
بُعد أمتار قليلة من بائع الجمال الـ "فرو"، ووسط أطنان من المجسمات
البلاستيك المتخم بها الشارع، وجدت بائعًا يعرض مجسمات حلاوة المولد بصورتها
الأصلية، مجسمات لنساء ورجل مصنوعة من السكر، يبيع أغلاها بأسعار زهيدة جدًا ـ إذا
ما قورنت بأسعار العرائس البلاستيك- فكان مجسم الرجل الذي يمتطي حصان يتراوح سعره
ما بين 5 جنيهات إلى 15 جنيهًا، بينما كان أسعار «العروسة الحلاوة» تتأرجح بين 10
جنيهات إلى 20 جنيهًا، كل قطعة حسب حجمها.
طلبت
من البائع أن يساعدني في اختيار مُجسّم مناسب لأهدية إلى شقيقتي الصغرى، وأخبرته
أنها طالبة جامعية (وهي رواية قلتها للبائع من أجل معرفة نمطه التسويقي) فقال لي:
«هات لها عروسة حلاوة (لم يشر إلى فئة سعرية محددة) هتعجبها جدًا وهتفرح بيها،
وهتقعد تضحك عليها، لأنها حاجة غريبة ومش منتشرة».
ولأن
العروسة مصنوعة من السكر سألته: هل يمكن أكلها، هل هى مضرّة؟
عندها
كسر لي البائع قطعة صغيرة جدًا من المجسم وقال لي: «دوق... أحنا حاجتنا مصنوعة
كويس، بس العروسة دى مش مصنوعة للأكل».
تناولت
كسرة الحلوى من البائع، ومررتها تحت أنفي لأستطلع رائحتها، فكانت الرائحة
«مسكّرة»، يزاحم عَبق السكر في أنفي مكوّن أخر، لم أستطع تمييز رائحته بدقة، لكنه
يتمايز بين «النشا» و«الدقيق».
وضعت
قطعة الحلوى في فمي، فوجدت صلابتها طيّعة، إذ استطعت جرشها بأسناني الأمامية
بسهولة، لتذوب بعدها علي مقدمة لساني، ومن ثم تسرب طعمها السكري الحلو في تجويف
فمي، قبل أن يحمل ريقي المحتوى ويهبط به إلى مجرى البلعوم هبطةً واحدة.
وسط
كل هذا الصخب البصري، الناجم عن استعراض باعة مجسمات «حلوى مولد النبي» لم أستطع
مقاومة حنيني الشخصي لمجسمات العرائس المصنوعة من السكر، كونها تحمل في ثقافتي روح
ومعني وهوية أراها تنحصر بفعل تسرب ثقافات أخرى إليها. فأشتريت مجسمين، واحد
«عروسة حلاوة» والأخر «حصان يمتطيه رجل بلا ملامح» والأخير يغلب عليه الرمز أكثر
من التفصيل، وقد رُفِعَ عليه علم مصر الملكي، بلونه الأخضر المميز وهلاله المحتضن
نجومه الثلاثة. دفعت فى هذه الشروة 35 جنيه مصري، فقط لا غير.
في
غمرة هذه الحالة الغارق فيها، أنا الثلاثيني الذي مازالت حلاوة قطعة مُجسّم السكر
تتشبث بريقه، عرفت أن "ضيّ" (وهو طفل لم يتخط السادسة من عمره، وشريكنا في الجولة) قد حدد معالم هدية المولد
المتماشية مع مزاجه: «مش عايز عروسة سكر، عايز حاجة بلاستيك تقعد معايا وما
تتكسرش».
Labels:
جدران