شباك

[شباك][twocolumns]

«مائدة الكريسماس» بين الواقع والأفلام


كتبت ـ طاهرة طارق
فوتوغرافيا ـ جورج بشارة

يجب أن أعترف أنً الأعياد الدينية بالنسبة لي هي مجموعة من الطقوس الاجتماعية المبهجة، والمرتبطة معظمها بالأكل وممارساته ورائحته. بالإضافة إلى مجموعة من المتلازمات البصرية والسمعية المرتبطة ببرمجتي اللغوية العصبية. فعيد الفطر هو أحد الأطباق الأنيقة على شاكلة تلك التي تخرج في الأعياد والمناسبات فقط، معروض على طاولة مغطاة بمفرش مُذهّب، ويزين الطبق الكثير من الكحك  ـ الذي لا أفضله بالمناسبة ـ المرشوش بالسكر البودرة، وبسكويت العيد بالنقشة (السنترافيش) المفضلة لدي، والكثير من «البيتي فور» الذي أعشقة، المزين بالشيكولاتة و«الفارمسيل» والمكسرات. وكوب من الشاي البربري (شاي تقيل، لبن كتير) أمّا عن «السابليه» والغريبة، فهي من البدع والمستحدثات ولا أفضلها على الإطلاق.
وإذا انتقلنا للأعياد المسيحية، فأقربهم إلى قلبي «عيد الغطاس» المرتبط بأكلة القلقاس الدافئة، وما لها من دلالات واستعارات مرتبطة بهذه المناسبة المقدسة، وإذا تطرقنا لباقي المناسبات، فأعترف أنني لم أستطع أن أميزها أو أميّز أكلاتها. بالرغم من أن أقرب جيراننا ـ والشقة الوحيدة المقابلة لنا ـ مسيحيين، وعلى الرغم من أنّ نافذة المطبخ هي المصدر الرئيسي للتواصل والنميمة ومعرفة آخر الأخبار ونقل وصفات الطعام بين أمهاتنا، إلا أنني لم أميّز يومًا روائح طعام مختلفة تعبر عن فترات الصيام التي أسمع عنها من أصدقائي المسيحيين. حيث أنّ روائح قَلي «الهامبورجر» واللحوم المُصنّعة، هي سيدة المشهد طوال العام. ولا يشكل خيالي عن طعام هذه المناسبات غير طبق متواضع نُهادَى به قرب رأس السنة، يحتوي على «كحك» و«بسكويت» و«بيتفور»، ولكنه يفتقر إلى لمسة وحِنكة وصنعة أمي في الخبز، وربما يكون جاهزًا أيضًا من أحد الأفران المجاورة.
أما بالنسبة للكريسماس، فهو أحد الأعياد التي بدأ خيالي في تكوين صورتها عن طريق مؤثرات خارجية من أهمها انتشار زينة الكريسماس في المتاجر والمحلات، وكسوة جميع الفتارين بالأخضر والأحمر والأبيض، وقطع الفلين المعبرة عن الثلج، والكثير من شجر الكريسماس، أمّا عن مائدة الكريسماس، فإنّ المسؤول الأول عن تشكيل صورتها هي الأفلام الأجنبية, حيث مائدة الطعام الكبيرة المليئة بالكثير من الأصناف الشهية والتي يتوسطها البطل الرئيسي، صاحب الطلة البهية الذهبية، الديك الرومي.
لذلك، عندما اقترح أحد الزملاء بأن نجتمع سويًا ونحتفل بالكريسماس في منزل أحدنا، على أن نقوم بالطبخ وتحضير اليوم معًا، حتى تشكلت على الفور أمامي صورة لمائدة يعلوها مفرش كاروه أبيض في أحمر، يتوسطها سيرفيس ضخم يعلوه الديك الرومي الذهبي والمحاط بالكثير من البطاطس والجزر ذات الحجم الصغير وغير مقطعة والمشرّبة بمرق الديك الرومي الذي لا يزال يرطّب (السيرفيس) ويحافظ على طراوة محتوياته وعصارتها، مع لمسة من أعشاب الروزماري الخضراء الطازجة التي تحافظ على الهوية البصرية لألوان المشهد؛ وتضيف بعدًا آخر لنكهة الطعام، وتفتح لك بابًا سحريًا لاكتشاف مذاقًا مختلفًا بامتزاجها مع مرق الديك الرومي وخضرواته المنكهين بالزبدة.
ويصاحب الطبق الرئيسي مجموعة من الأطباق الثانوية؛ كالخضار السوتيه التي تتصدره الفاصوليا والهليون، ويجاورهم مجموعة من المخبوزات الطازجة، والسلطات والحلويات، بالإضافة إلى مجموعة من كؤوس النبيذ الأحمر ـ الذي لن أتذوقه بالطبع بحكم الوازع الديني ـ التي تزينها عيدان القرفة والينسون النجمة وشرائح البرتقال، وتتجلى في زاوية المشهد شجرة الكريسماس المزينة بالكرات الملونة اللامعة من الأحمر والذهبي والفضي، مع كرات من الفلين الأبيض (كاستعارة عن الثلج الذي لا يزور القاهرة) وزهرة الصنوبر بلونها البني الخشبي التي أصبحت تباع مؤخرًا مع زينة الكريسماس. بينما يصاحب المشهد مجموعة من أغاني الجاز والبلوز، يتصدرها صوت لويس أرمسترونج وسيناترا بأغنية الكريسماس الأقرب لقلبلي:
«Have yourself a merry little Christmas».
يقوم على إخراج هذا المشهد مجموعة من الأشخاص يرتدون ملابس شتوية غاية في الأناقة والدفئ، يتخللها العديد من الأحمر والأبيض أو البيج والهافان، وربما الأخضر الزيتي لتتسق مع ألوان المشهد.
ظلت هذه الصورة قائمة حتى اقترب اليوم الموعود، وبدأت الأسئلة الوجودية:
«مين هيعمل أكل إيه!؟»
 

في البداية، تطوعت إحدى الزميلات باستضافتنا في بيتها في منطقة دجلة؛ المعادي، مما جعل مشهد ليلة الكريسماس في أبهى صورة في خيالي. فنحن مستضافون في أحد أرقى أحياء منطقة المعادي التي أنتمي لها أبًا عن جد. وحيّ دجلة هو الهدوء والرقي والخصوصية دون الانقطاع عن العالم، واختفاء احتمالات اختراق صوت مشاجرة في الشارع لمساحة آمانك السمعي، أو اختراقك أنت شخصيًا من قِبَل سماعات فرح شعبي، أو مأتم قرر صاحبه أن تشاركه مشاعره عنوة بوضع سماعة مخصصة للاستاد في شارع لا يتعدى عرضه 15 مترًا، وتحت شرفتك أنت بالذات كجارٍ طيب ومطيع وصاحب واجب!
إذن، فالمكان مطابق، ولكن ماذا عن الطعام؟
ما أن بدأ الحديث حول الطعام حتى بدأت صورة المشهد في خيالي أن تهتز وتشوش، فلم أستطع أن أتذكر طبقًا أتقنه يتماشى مع مائدتي الذهنية!
فبالطبع لن أقوم بعمل ديك رومي لأنني لم أطبخه من قبل، كما أن الانتقال به سيكون صعب للغاية، وربما لن تكون «الباستا» الخيار الأفضل حيث لم يتحمس الكثيرين لها عندما تم طرحها كاقتراح. ولكني تذكرت أني أجيد عمل «التشيكن باي» أو فطيرة الدجاج، وهي إحدى الأكلات التي تتسق مع المشهد بجدارة، من حيث الاسم وتكنيك الصنع، وحتى ألوانها ومكوناتها، فاللون الذهبي الخارجي للفطيرة وقوام العجينة الهش والمقرمش من الخارج؛ والرطب بسبب المحتويات من الداخل، يتسق تمامًا مع لون ومذاق الديك الرومي، أمّا عن حشوتها فهي بابا نويل المائدة، متمثلة في هذا القوام الكريمي الأبيض الذي يفاجأك ويزين طبقك بمجرد تقطيع الفطيرة جارفًا معه قطعًا من الخضروات كالبسلة والجزر والبطاطس والفاصوليا الخضراء، والكثير من الهدايا والمفاجآت الجميلة وغير المتوقعة. ولكن ظروف نهار ذلك اللقاء ـ والنفس الأمّارة بالسوء التي لا تخضع لقواعد الصورة الذهنية ـ جعلتني أغيّر الخطة وألجأ إلى طبق آخر أحبه للغاية، ولن يحتاج مني وقت كبير و«مزاجنجية» عالية لا تتسق مع ظروف عملي في ذلك اليوم لظبط مذاقه. كما أنه استطاع أن يطيح «بالتشيكن باي» بعيدًا ويتربع على عرش خيالي وذائقتي بين ليلة وضحاها. إنه «طاجن السجق البلدي» بالبصل والطماطم والفلفل الملون ودبس الرمان، مما جعلني (ألف عليه كعب داير) يومها الذي وافق الاثنين وهو يوم أجازة الجزارين!

قمت بتسوية هذا السجق وتقديمه في طاجن فخّاري عسلي اللون، يتخلله لمسه من اللون الأخضر مع مراعاة تنوع ما يحويه الطاجن لعله يتماشى مع الهوية البصرية للمائدة في ذهني. وقمت أيضًا بتحضير سلطة خضراء مضاف إليها لمستي من شرائح التفاح السكرية الصغيرة وفصوص الرمان وقطع صغيرة من البصل الأبيض السكري، مع لمسة من دبس الرمان كي تكتمل وصفة بنات أفكاري وتختتم هذه السيمفونية بالشكل الأمثل.
وما أن وصلنا واجتمع الأصدقاء، وبدأنا في تسخين بعض الأكلات، وتسوية البعض الآخر وتحضير السفرة، حتى تلاشت صورة المائدة التي في خيالي لتحل أخرى تضم طبق من «بيف ستروجانوف» وطاجن «سجق بدبس الرمان»، وصينية «بطاطس جراتان»، و«جوانح دجاج بدبس الرمان»، و«صينية مسقعة» قدمتها لنا صديقتنا الليبية باسم مختلف على أنها إحدى الأكلات الليبية الشعبية، لكننا اتفقنا جميعًا أنها مسقعة مصري (على أبوه) مما جعل صديقنا المسيحي الوحيد في هذا الجمع أن يمزح معها قائلًا «انتِ عاملة مسقعة ليه؟ هو انتِ صايمة!». فالمسقعة من الأكلات المرتبطة بصيامهم، وأعتقد أنه ليس مرحب بها بالنسبة لهم على مائدة الكريسماس. وصاحب الأكلات السابقة طبق محشي كرنب على طريقة صديقتنا المضيفة، وأرز أبيض وطبق سلطة مكون من مجموعة البقوليات والخضروات الرائعة بالإضافة إلى طبق السلطة بفصوص ودبس الرمان.
 أما عن الحلويات، فكانت مجموعة من «الكاب الكيك» الجاهزة؛ المزينة بألوان وأشكال الكريسماس، وطبق بسبوسة، وصينية قرع عسل رائعة (ومظبوطة على الشعرة).
وعلى الرغم أنّ المائدة وقتها لم تكن تشبه من قريب أو من بعيد تلك التي في خيالي، إلا أنني كنت سعيدة وشعرت بقدر كبير من الوِد والألفة، رغم أنها زيارتنا الأولى لهذا البيت، وحداثة صداقة معظمنا.
وحاولت في هذه الأجواء أن أحافظ على الأقل على خلفية المشهد بصوت سيناترا وأغاني الجاز، ولكنها سرعان ما تحولت إلى أغاني شعبية يتصدرها صوت الفنانة روح الفؤاد على يد صديقتي نصيرة المهرجانات والأغاني الشعبية ـ التي أحبها بالمناسبة ـ وعندما حاولت أن أشاركها خيالي المبرمج على ربط الكريسماس بأغاني سيناترا، مازحتني وذكرّتني بأنني عندما اخترت أكلة لحفلة كريسماس، أعددت لهم طاجن سجق بلدي، فكيف لفتاة طاجن السجق أن تفضِّل في هذا الموقف صوت سيناترا على صوت الست روح الفؤاد!
  

استوقفتني جملة صديقتي المازحة وجعلتني للحظة أنظر للمشهد من زاوية مختلفة، وأكتشف سر الارتباك الذي أصابني عندما احترت في الطبق الذي سأقدمه وأنا العاشقة المُجيدة للطبخ. فنظرتي لمائدة الكريسماس هي نظرة المشاهد وليس المشارك، وبما أنني لا أتذكر مشاهدتي لمائدة كريسماس في أفلام أو مسلسلات مصرية، فإن خيالي تم تكوينه بالكامل بشكل غربي وأوروبي، وأعتقد أنني معذورة، فحتى الزينة والشجرة وكرات الفلين البيضاء التي تمثل ثلجًا غير مرتبط ببيئتنا ولا طقسنا، وأسطورة بابا نويل التي تم إعادة تدويرها لقصة القديس نيكولاس، كلها مظاهر غير مصرية.
وفي هذه اللحظة أدركت قيمة أخرى لهذا التجمع الذي أعطاني الفرصة الأولى لاكتشاف مائدة الكريسماس من وجهة النظر المصرية، وأنا مدركة تمامًا أن مائدتنا التي ذكرتها سابقًا لا تعتبر نموذجًا يُحتذى به، ولكن بما أننا نتحدث عن صينية مسقعة وطاجن سجق وطبق محشي كرنب، فمن المنطقي أن يصاحب الخلفية صوت الست روح الفؤاد الدافئ المُبهج وهي تغني «سوق بينا يا أسطي علي الكورنيش، ناكل درة ونشرب مانجا، وواحدة واحدة إن شالله تعيش، ماشيين حلوين دنجا دنجا».

برواز

[برواز][bigposts]