شباك

[شباك][twocolumns]

كورقةِ شجرٍ خريفية ـ قصة


أربعون عامًا مروا عليه وهو أعزل، لا حب، لا أسرة، لا شيء يجعل للحياة طعمًا حرّاقًا شهيًا.
كان يحس دائمًا بشىءٍ ما يجري في معدته. شعور غريب يجتاحه عندما تنتابه الوحدة، إنه البحث عن اللاشئ، خليط من الحاكة والعطش يدبان فى معدته، وتحديدًا عند فوهة المعدة، نفس المنطقة التى تستوطن اللوعة وأعراض الحزن الشفيف. لم يكن مصابًا بأيًا من الأمراض العضوية، لكنَّ اعتلال نفسه كان يشتكى له سائر أعضاء بدنه النحيل.
كثيرًا ما كان يهرب من البيت. فوبيا الأماكن المغلقة ليست سببًا في هذا الهروب، بقدر سيطرت فوبيا الانتهاء على وجدانه. الشعور بأنّ كل شيء قد انتهى؛ بأنّ العالم لن يستطع تعويضه عمّا فات من حياته دون إنجازات إنسانية خالدة. على الأقل أمام نفسه!
"لم يبق في العمر بقية"
الأربعينى الذي يعيش روح الكهولة، نَشَلَ الزمن عشر سنوات من عمره في لمح البصر. لم يعرف كيف ضاعوا! لا أحداث، لا علاقات، لا تجارب، لا خبرات. رغم أنّ هذا العقد مختزن بالكامل في عقله الواعي والباطن معًا. إلا أنه ـ بمنطق فلسفي ـ لا يجد أثرًا على حاله يوازي هذا الثراء الداخلي. انكساره على نفسه أفقده الكثير من رونقه ومن مذاق لذّة الحياة في جوفه.
عن نفسي، حاولتُ كثيرًا أن أُعدّل من نفسيته، فأنا أعرفه عن قرب. الصداقة والعلاقة القوية التي تربطني به تمنحني فرصة إسداء النصائح المبطنة له. كان يتلق جميعها ويمضي فوقها. كان يفرم الأيام فرمًا، أو تُفرم هى أمام عينيه في أوراق النتيجة، أو تفرمه هو، دون أن يستطيع إيقافها.
في تنظيم بيته، الصدفة جعلت النتيجة معلقة أسفل ساعة الحائط الخشبية العتيقة، ذات البندول الهزاز، حركته تشبه يد منظم المرور بعصاه الفسفورية، ليقول لقائدي السيارات في إشارات ديناميكية متوالية "هيا، اعبروا بسرعة".
"ما أقسى ذلك الدويتو المرعب."
مرّة، جرّأته على تنفيذ فكرة عبثية رومانسية طرأت على باله، أحسست أنها سوف تملأ روحه بالسعادة وتشغل قوائم إنجازاته الخالية بواحده. لكنه رفض.
- ما الذى يجعلك تتردد فى إهدائك وردة لامرأة حلوة لا تعرفها؟
- الفضيحة!
ذلك ما الجمه.
فللخوف عاملًا حيويًا فى استكانة ذلك الأربيعنى، هو العلة الخفية التي تعطل كل أيامه، هو لا يعرف ذلك، أو يعرف ويدعي أنه لا يعرف؛ اتقاء شرّ الدخول في مواجهة مع نفسه.
الخوف لم يعق صديقي الأربعينى عن الدخول في علاقات وتجارب، لم يحد من تعاملاته، بل على العكس هو نشط جدًا في هذا الاتجاه ويستطيع التعامل بشكل جيد فى كل تلك الجوانب، لكن الخوف يعيقه عن الحياة، الحياة بمعناها العميق.
سألته مرة بخبث الطيبين:
- ما الذى ينقصك لتحيا؟
قال:
- "الارتواء!"
هو محق.
روحه جافة كورقةِ شجرٍ خريفية، يعزله عن إروائها، الخوف الذي حدثتكم عنه.
مثلا هو يهوى النساء الجميلات. العيون الشاسعة الواسعة في البيضاوات، الشعر الأسود في السمراوات، الأياد الخمرية الطويلة، الصوت الناعم المبحوح، الأظافر المطلية بالحمرة، ومحترفات الكعب العالي، ومدمنات الفساتين القصيرة، والطويلة إن كانت رفيعة الذوق، الضحكات العالية المناهضة للرقاعة، مُجيدات الحوارات العميقة، الذكيات الائى يعرفن مواعيد وأوقات تطويعه (يجب أن أفرحه الآن. هنا أحتج على تصرفاته. موعد الحضن الدافيء حضر، الأمر يحتاج لقبلة لتلطيف كيمياء جسده...) وغيرها الكثير من مفرادات الجمال في معجمه الذي فتشتُ فيه كثيرًا؛ لافهم.
فهمت، ودهشت أيضًا!
المعجم البسيط، الدسم، الذي ألفه الأربعينى الكهل لتذوق الحياة، عندما يصادف أيًا من مفرداته في الواقع، تفاجأت، أنه ينكمش، يأخذ خطوة إلى الوراء، لا يقو على الصمود أمام أيًا من تلك المفرادات والمترادفات المفرحة. يتراجع، يتراجع، إلى أن يبتعد. ليبق وحيدًا، يؤنسه عطشه وحاكة مزمنة في المعدة تؤلم نفسه، مع كثير من الشعور بالحاجة إلى إرواء روحه الجافة، الجافة جدًا كورقةِ شجرٍ خريفية، تدرك نهايتها وتنتظر لحظة السقوط، رغم أنها مازلت متصلة بالحياة.

قصة ـ أحمد الرومي

برواز

[برواز][bigposts]