شباك

[شباك][twocolumns]

عرق الموت.. ننشر مقتطف من مفتتح رواية «شيطان العرش» للكاتبة إسراء حسين

كَم أنا غَبِيٌّ! ما الّذي جَعَلَني أنفَصِلُ عَنِ الجَميع؟ بَل ما الَّذي جَعَلَني أدخُلُ مِنَ الأساس؟ وكيف وَصَلتُ إلى هذا المَكانِ على أيِّ حالٍ! فَأنا لَم أقطَع كُلَّ تِلكَ المَسافَةِ وما خَطَّت قَدَمايَ الرِّمالَ، فَكَيفَ إذًا أصبَحتُ فَجأةً في مَركَزِ الصَّحراء؟! 

أخَرَجتُ مِن تَحتِ طبقاتِ الأرضِ أم سَقَطتُ مِنَ السَّماءِ؟ ومِن بَينِ كُلِّ الأبواب، لَم أختَر إلَّا البابَ الّذي يُلقي بي في أحضانِ المَوتِ والغَرَقِ في الجَفافِ!...

الآنَ فَهِمتُ لِمَ كُنتُ أسمَعُ أمِّي مُنذُ فَهِمتُ الكلامَ تقولُ دَومًا لِلنَّاسِ؛ "وَلَدي حَمزَة مَتعوس"... ولَطالَما أخبَرَني أبي أنِّي مُنعَدِمُ الذَّكاءِ ومَشئوم فَهنيئًا الآنَ لَهُما و لي! فَها أنا ذا لَم أُخَيِّب ظَنَّهُما ولَم أُكَذِّب قَولَهُما.

لا أرَى أثَرًا لِحياةٍ جارِيَةٍ أو سابِقَةٍ أو مُمكِنَةٍ في هذا الفضاءِ مُفرِطِ الصُّفرَةِ، حَتَّى الهواء، لَم يَسلَم مِن رائِحَةِ المَوتِ الَّتي يَتَعَرَّقُ بِها المَكان، مَلامِحُ الأشباحِ تبرُز مِن وراءِ السَّرابِ، وعُيونُ اليَأسِ تُبَحلِقُ في عَينَيَّ مِن جَميعِ الجِهات.

يَضيقُ صَدري مِن تُرابٍ يَتَسَرَّبُ إلى داخِلِهِ خادِشًا رِئتَيّ كَالزُّجاجَ المَطحونِ، ولَا قُدرَةَ لي على تَحَمُّلِ صَوتِ صَفيرِ الهواءِ هذا، أشعُرُ بِأعضائِي الدَّاخِلِيَّةِ تَتَشَقَّقُ وجِلدِي يَتَحَجَّرُ وشَفَتَيّ تَحتَرِقان... فَوَاللهِ لو كان مَعي سِكِّينٌ الآنَ، لَكُنتُ قَطَّعتُ عُروقي وشَرِبتُ مِن دَمِي لِأرتَوِيَ.

... أينَ ذَهَبَ ذاكَ البابُ المُضَلِّلُ ذو اللَّونِ الزَّاهي، بَعدَ أن نَجَحَ في خِداعِي وإغواءِ خَيالِي الخِصب؟ حَتَّى خُيِّلَ إلَيّ أنِّي سَأجِدُ من ورائه عالَمًا مِن زَهورِ عَبَّادِ الشَّمسِ والأقحوان والنَّرجِس، ثُمَّ أغوصُ في ثِمار المانغو وبَينَ أصابِع المَوزِ وحَبَّاتِ البابايا.

واللهِ لأُقاضِي صاحِبَ هذه المَتاهَةِ على تِلكَ المُبالَغَةِ والتَعَدِّي لِحُدودِ السلامة، بل والأدَب!

هذا لا يَصِحُّ أبَدًا ولا يُعْقَلُ، فكيفَ لِلمَخرَجِ أن يَغيبَ عَنِ اللُّعبَةِ أو يَتَلاشى المَدخَلُ بِهذه السُّرعَةِ؟! أنا لا أتَذَكَّرُ أنَّهُ قَد رُفِعَ لِلسَّماءِ أو سَقَطَ إلى داخِلَ الأرضِ أمام عَينَيّ، كُلُّ ما أذكُرُهُ أنِّهُ قَدِ اختَفى بعدَ رمشةٍ واحدةٍ من عَينَيّ.

... ماذا إن دَفَنتُ نَفسي في مَكاني الآن؟ ألَن أُطرَدَ مِنَ اللُّعبَةِ بِانتِهاكِي القَوانين؟ ولكن ما هِيَ القَوانين؟ وهل هُناكَ قوانين مِنَ الأصلِ؟... لا يَهُم، فلا أظُنُّ على أيِّ حالٍ أنِّهم سَيتركونَني هُنا لِلْمَوتِ، فلا بُدَّ أنَّهُ سَيَتِمُّ إنهاءُ اللُّعبَةِ وإعلاني مِنَ الخاسِرينَ إذا حاوَلتُ قَتلَ نَفسي وإبداءَ استِسلامِي...

ولَكِن كَيفَ سأحفرُ قَبرًا لي في هذه الرِّمالِ الزَّلِقَة؟ ولِمَ هي زَلِقَةٌ إلى هذه الدَّرَجَة؟ ولِمَ الهواءُ ثَقيلٌ وعالي الكَثافَةِ إلى هذا الحَدِّ؟ أَعَلَى سَطحِ المرِّيخِ أنا؟ لا، مَستَحيل، فَكثافَةُ هوائهِ أقَلُّ مِئَة مَرَّةٍ مِن كَثافَةِ هواءِ الأرض، إذًا حَتمًا أنا على الزُّهرَة، كَيفَ إذًا وأنا لا أحتَرِقُ؟ مَهلًا! ما هذا الذي أقول؟! أيُّ مَرّيخٍ وأيُّ كَثافَةٍ وأيُّ زَهرَةٍ ؟!... يا الله لقد عَبَثَت المتاهةُ بعَقلي!

برواز

[برواز][bigposts]