شباك

[شباك][twocolumns]

مُبدع الحرب.. سعد الدين الشاذلي، أيوب المآذن العالية | بروفايل موسّع

وقف السفير سعد الدين الشاذلي فى شرفة مكتبه، بمقر السفارة المصرية فى العاصمة لشبونة، يطالع الأفق، ونفسه تموج بمشاعر هى مزيج من الألم والغضب والغيرة الوطنية، مقيدًا بخيط الدبلوماسية الرقيق، فالرئيس أنور السادات قد أعلن توقيعه اتفاقية "كامب ديفيد"، ببنود رأها "الشاذلي" ما هى إلا سلامًا مرًا خاضته مصر. تبعها "السادات" بنشر مذكراته "البحث عن الذات"، اتهم فيها الفريق "الشاذلي" بالتخاذل العسكري، وحمّله مسئولية ثغرة الدفرسوار. شريط ممتد من الذكريات مرّ فى ذهن الفريق سعد الدين الشاذلي (رئيس أركان حرب القوات المسلحة 1971 ـ 1973) فهو المقاتل الذى قضى عمره يحارب ويخطط لسحق عدو؛ سفك دم أبناء المصريين والعرب، واحتل أرضهم. حرب فلسطين، العدوان الثلاثى، حرب النكسة، حرب الاستنزاف، حرب أكتوبر. جميعها تموضع فيها "الشاذلي" على جبهة القتال، ممسكًا بسلاحٍ، نزع منه عنوه؛ عقب أسابيع قليلة من اندلاع حرب 73، وأُبعد عن ميدان المعارك بغتة، وبخس الرجل حقه في التكريم العسكري عن عمله الوطني المشرف.

بروفايل | أحمد الرومي

ارتضى القائد العسكري النبه بتلك الإجراءات القاسية. مترفعًا عن الدخول في مواجهات ما أراد أن يخوضها. لكن؛ بعد سلام رأى "الشاذلي" أنه مقيدًا لحرية القرار العسكري في سيناء، وبعد افتراءات طاعنة في شرفه العسكري (وجهها له "السادات" في مذكراته) وجد "الشاذلى" أنه لم يبق فى قوس الصبر منزع. خلع بزّته الدبلوماسية المقيدة، مرتديا ثوب السياسي المعارض، للمرة الأولى فى حياته، معلنًا رفضه لاتفاقية السلام، فى مؤتمر صحفى عالمي عقده فى البرتغال عام 1978، عازمًا على مجابهة حكومة "السادات" حتى الرمق الأخير.

"الشاذلي" أثناء عمله سفيرًا لمصر فى لندن

 عاشق العسكرية

لم يكن الفريق سعد الدين الشاذلي ـ قبل ذلك اليوم ـ يهو لعبة السياسة، إذ ظل طوال عمره العسكري مُقاتل من طراز فريد، منضبط، ملتزم، صارم. في حين أن السياسة لعبة مناورات قد تشوبها اللأخلاقية ـ وهو ما ترفع عنه "الشاذلى" منذ صباه.
فقد شبّ فى حقبة كان الشارع المصرى خلالها يموج بالحركات السياسية المتنوعة، الساعية إلى الاستقلال عن الاحتلال البريطانى (فترة الثلاثينيات). ورغم إيمانه بهذه الغاية السامية، إلا أنه فضّل خدمة وطنه من موقعه "ضابطًا في الجيش المصري".

حماسه ووطنيته، خلال عمله بالجيش، شجّعا جمال عبد الناصر على ضمّه للضباط الأحرار عام 1951، رغم أنهما كانا جيران في عمارة واحدة منذ الأربعينيات، وتربطهما علاقات أسرية قوية. كل ذلك لم يشفع له عند "ناصر" ليضمه مبكرًا للضباط الأحرار، إخلاص "الشاذلي" لبزّته العسكرية، كان مصوغًا مطمئنًا لناصر كى يضمه إلي حركته السرية.

تفضيل "الشاذلي" الحياة العسكرية على العمل السياسي لم يحل بينه وبين متابعة الحركات السياسية التي تتشكل، إذ كان مهتمًا بقراءة كتابات تحلل وتفكك الوضع السياسي، من بينها المقالات النارية التى كان يكتبها إحسان عبد القدوس فى "روزاليوسف". ظل "الشاذلي" ملتزما بروح وفكر "العسكري المحترف" فى كل الحروب والمعارك التى خاضها، إلى أن حلّ نفسه من هذا الالتزام عام 1978.

جمعت الجيرة بين "الشاذلى" و"عبد الناصر" منذ الأربعينيات، لكن "ناصر" لم يضمه للضباط الأحرار إلا عندما تأكد من وفائه لبدلته العسكرية

الشاذلي والسياسة

مع إعلان "الشاذلى" قرار ترك موقعه الدبلوماسى فى البرتغال، ودخوله على خط المعارضة السياسية لحكومة "السادات"، سعت إليه الطائرات العربية من عواصم مختلفة، تخطب ودّه، ليختار بلادها مقرًا له. لم يخطف عقل "الشاذلي" الحفاوة التى أظهرتها الدول العربية تجاهه، بل كان مشغولًا بالبحث عن منصة حرّة يجابه منها "السادات"، دون أن تفرض عليه الدولة المضيفة (كلاجئ سياسي) إملاءات أو مضايقات.

تلك المعايير فطن "الشاذلي" إلي توافرها في دولة الجزائر. اتجه إليها، وهناك بدأ أول معارك المجابهة السياسية؛ بنشر مذكراته عن حرب أكتوبر، فنّد فيها بدقة، ما تم في أروقتها، وأدوار قادتها، ردًا على الادعاءات التى أوردها "السادات" فى مذكراته، وقد أحدث كتابه صدى كبير.

اتفاقية "كامب ديفيد" كانت حجر الزاوية فى تحول "الشاذلى" إلى معارضة نظام "السادات"

لم يكتف "الشاذلى" بتلك الخطوة، بل أسس "الجبهة الوطنية المصرية" لتوحيد قوى المعارضيين المصريين بالخارج، وتوجيهها إلى داخل مصر، لتوعية المواطنين. وانبثق عن هذه الجبهة دورية، سياسية، مطبوعة، ركزت على تفنيد وانتقاد السياسات الخاطئة للحكومة المصرية. كتب "الشاذلي" مقالات نقدية قوية حول هذا الهدف، وكان يوزع أعداد مطبوعته عبر البريد، موجهها إلى مكاتب المسئولين في القاهرة.

قضى "الشاذلي" 14 عامًا في منفاه المنتقى، قرر بعدها العودة إلي مصر. فقد تبدّلت الأوضاع في الجزائر، فنظام الحكم تغيّر، وكذلك الوجوه التى أسست معه "الجبهة الوطنية المصرية"، حينها تساءل "إلي متى سأظل منفيًا؟" وكانت الإجابة عملية، بعودته إلى مصر "خط المجابهة".

عاد "الشاذلي" إلي القاهرة عام 1992، وهو يعلم أن حريته مهدده بالقيد، بعدما حكم عليه غيابيًا بالسجن ثلاث سنوات عام 1983، في قضية عسكرية اتهم فيها بـ "إفشاء أسرار حربية في مذكراته".

قُبض على "الشاذلي" داخل مطار القاهرة، وأودع السجن الحربي، وهناك أرسل له حسني مبارك، الرئيس الأسبق، مندوبًا يحثه على كتابة طلب للعفو عنه، بالصيغة التي يرتضيها "الشاذلى"، وهو ما رفضه الأخير تمامًا. وبقى في السجن 20 شهرًا، إلى أن أفرج عنه قانونيًا، بعد قضاء نصف المدة. عاش "الشاذلي" فترة سجنه في قراءة القرآن وتدبر  معانيه، فختمه 70 مرة، بواقع ثلاثة أجزاء يوميًا.
(تشير بعض التحليلات حول تلك الفترة، إلى أن "مبارك" رأى في سجن "الشاذلي" أمرًا ضروريًا، للقضاء على شعبيته في الشارع، بعد أن كسب الرجل تعاطف المصريين اللذين أحسوا بظلم السادات له).

ذاق "الشاذلى" مرارة الهزيمة.. فعزم على سلب العدو الإسرائيلى سلاحه الجوي فى خطة النصر

فلسفته الحربية

وقف اللواء سعد الدين الشاذلي، وسط رجال كتيبته في قلب سيناء، يراقب موقف مبهم وضع فيه، فقد كُلّف بحراسة وسط سيناء (بين القطاع الأوسط والجنوبي)، وصدّ أي هجوم للعدو الإسرائيلي. مضى الوقت ومازال الاتصال بقيادته مقطوعًا، فهو في عزلة عسكرية صريحة. لم يكن "الشاذلي" يعرف أن أمرًا عسكريًا قد صدر من قيادة الجيش بالانسحاب الكلي من أرض سيناء، وأن مصر تلقت ضربة عسكرية قاسية، يوم 5 يونيو 1967، لكنه فطن إلى ذلك الوضع بحسّه العسكري المتّقد.

أخذ "الشاذلي" يرقب السماء بين جنوده، فلاحظ غياب المقاتلات المصرية، مع تحليق مكثف للطيران الإسرائيلى. أحس أن شىء غير طبيعي يحدث، فتّش في إذاعات الأخبار العالمية، وجدها جميعها تتكلم عن خسارة مصر الفادحة في الحرب. لم يهتز "الشاذلي"، ظل ثابتًا بين رجاله، ونشر أمامه خريطته العسكرية، واتخذ قراره الأصعب للنجاة: "سوف نتوغل في أرض فلسطين".

نجح "الشاذلي" في العودة بكتيبته (1500 ضابط وجندي) إلى غرب القناة يوم 8 يونيو، بخسائر طفيفة، بعد أن لجاء إلى منطقة جبلية داخل الحدود الفلسطينية، صعّبت من استهداف طيران العدو له، وقراره التحرك والانسحاب بقواته ليلًا ملتحفًا بظلام يعمى سلاح الجو الإسرائيلي عنه.

من ذلك الموقف المهيب، الخطير، غزل الفريق سعد الدين الشاذلي فلسفة خطة العبور، صاغها بحرفية مقاتل مُجرّب. فمجابهته، للعدو والموت، مرات عديدة، فى حروب متنوعة، أكسبته حنكة عسكرية، وصقلت مواهبه القتالية، ومكّنته من تأليف معزوفة "خطة العبور العظيم".

عقب هزيمة 67، راح "الشاذلى" يفكر في أسبابها. لقد ذاق مرارتها، وشهد الفوضى العسكرية وسوء التخطيط، فكوّن فلسفة حربية استطاع أن يهزم بها العدو، بكل ما يملك من قوة وتفوق.

فمن يصدق أن "الشاذلي" حينما تولى رئاسة أركان الجيش المصري عام 71، لم يكن هناك خطة عسكرية هجومية! وهو ما عمل على دراسته بعمق ودقة، مُعدًا دراسة كشف فيها مواطن ضعف الجيش الإسرائيلى، وقياس القدرات الحقيقية للجيش المصري، فتوصل إلي خطة هجومية واقعية أطلق عليها "المآذن العالية".

ارتكزت خطة "الشاذلي" الهجومية على شن ضربة مفاجئة ضد العدو الإسرائيلي فى سيناء، ذات هدف محدود، وهو تحطيم "خط بارليف"، وتوغل الجيش المصري لمسافة 10 : 12 كيلو مترًا شرق القناة. بعدها تتخذ القوات مواضع دفاعية، تكفل لها البقاء أطول فترة ممكنة. ليرغم إسرائيل على الاستمرار فى احتشادها العسكري، المرهق لبنيتها الإقتصادية، كون أن 80% من الجيش الإسرائيلى يُعبء من المدنيين، وهو ما يصيب المجتمع الإسرائيلي بالشلل.

كذلك عمدت خطة "الشاذلي" إلى تحييد سلاح الجو الإسرائيلى، وإجباره على المواجهة البرية فقط، معتمدًا على "حائط الصواريخ" المصري، الذى يوفر الحماية لقواتنا فى سيناء لمدى 12 كيلو مترًا، ويمنع الطيران الإسرائيلي من الدخول لأجوائه.

خريطة توضح  توزيع قوات الدفاع الجوي المصرية في حرب أكتوبر 73

تلك الرؤية العسكرية طرحها "الشاذلي"، بشكلٍ رسمي على "السادات"، فى يونيو 72، خلال اجتماع مصغّر حضره عدد من قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في القناطر الخيرية. وذلك بعد عرض المشير عبد الغني الجمسي (رئيس هيئة العمليات فى الجيش المصري حينها) لرؤية أعدها الفريق محمد صادق (وزير الحربية وقتها) واللواء أحمد إسماعيل (رئيس المخابرات العامة فى ذلك الحين، وقد رقى بعد ذلك وزيرًا للحربية) تفيد: "أن القوات المسلحة ليست في وضع يسمح لها بإجراء عملية هجومية". (تقدير "صادق" و"إسماعيل" أن مصر لا بد أن توجه ضربة عسكرية، غير محدودة، لإسرائيل، هدفها العبور بالقوات والوصول إلى خط المضائق. وهى خطة تحتاج مزيد من السلاح والوقت لتنفيذها، لأن إمكانات القوات المسلحة لا تسمح بذلك).

وبمرور الوقت والدراسة اعتمدت خطة "الشاذلي" (المآذن العالية) كنواة لخطة هجومية مطوّرة لاسترداد الأرض، وإدخال تعديلات عليها لتتوافق مع الخطة الحربية الشاملة مع الجبهة السورية.

 

 دينامو "المعركة الأوكتوبرية"

لعب "الشاذلي" دورًا مهمًا في حرب أكتوبر، إذ كان بمثابة "دينامو الجندية الأوكتوبرية" عمل خلالها على محورين، تعزيز وعي وكفائة الجندي المصري، ورفع روحه المعنوية.

انشغل الفريق "الشاذلي" بالبحث عن وسيلة تمكنه من التواصل مع كل رتب الجيش المصري (قادة وجنود) لينقل لهم خبراته، وإعدادهم عسكريًا. لم يهدأ إلا ببناء جسور بينه وبين كل فئات الجيش. فقد خلق من المؤتمرات الشهرية مع القادة والمديرين، نافذة مهمة للتواصل، وتقليص الفجوات بين الرتب العسكرية، وطرح المشكلات، وإشراك الجميع في حلها، هذا بخصوص القيادات.

أما الجنود والأفراد، فقد ابتكر طريقة فريدة للتواصل معهم، وهى تأليف كتيبات صغيرة ـ يمكن للجندي حملها فى جيبه ـ تعالج مشكلات تمسّه بصفة مباشرة، وقد أصدر 8 كتيبات، (6 قبل بدء الحرب، وكتيبان بعد وقف إطلاق النار) أبرزها "دليل الجندي" و"التقاليد العسكرية" و"دليل التائهين في الصحراء".

هذا بالتوازي مع "توجيهات عسكرية" أخرى (كان يكتبها "الشاذلى" بنفسه، ويطبعها ويوزعها على القادة حتى مستوى قائد السرية) تتناول كل تفصيلة يجب على الضابط والجندي معرفتها، لتنفيذها إذا ما أتخذ قرار العبور. وخلال فترة قيادة "الشاذلى" لرئاسة أركان الجيش أصدر 53 توجيهًا، أشهرها "التوجية 41" الخاص بتفاصيل عبور قناة السويس، وتخطى وحده 700 صفحة.

تواصل "الشاذلى" المكثف مع قادة وجنود الجيش كانت جزءا من خطته لإعداد القوات السلحة لحرب أكتوبر

 لم يغب العامل النفسي عن خطة "الشاذلي" لإعداد الجنود للحرب، وكانت ترتكز على ثلاث عناصر: "رفع وعى الجنود وإثقالهم بالمعارف العسكرية. إلمام الأفراد بقدراتهم الحقيقية. وأن يكتسب القادة ثقة جنودهم".

دائب "الشاذلي" على إجراء الزيارات الميدانية، ليستطلع أحوال الجنود ومدى جهوزيتهم. فمثلا، كان يختار أحد الجنود ويطلب منه التصويب بسلاحه على أحد الأهداف، فإذا أصابه، يصدر "الشاذلى" قرارًا بترقيته، على سبيل المكافأة.

ومرّة دخل بصورة مفاجئة إلى "مدرسة المظلات" وجمع الجنود فى الطابور، ثم نادى على ضابط وعسكرى بالأسم. ولما حضرا سأل "الشاذلي" الضابط: هل اعتديت أمس بالضرب على هذا العسكري؟ فأقر الضابط بالواقعة. فأصدر "الشاذلي" أمرًا إداريًا بأن يحمل الضابط "مخلته" ويعود بها إلى "المؤخرة" سيرًا على الأقدام (تبعد 13 كيلو)، ولا يعود إلى موقعه مرة أخرى.

تلك المواقف ـ وغيرها الكثير ـ كان لها فعل السحر على نفوس العساكر والضباط.
كما ابتكر "الشاذلي" لمسات ذكية خلال الإعداد للحرب، بغية بث الحماس فى روح الجنود. أبرزها قصة هتاف "الله أكبر" خلال العبور.

أثناء تفقده للجنود على الجبهة، فى اليوم السابق للحرب، وجد "الشاذلى" اللواء عبد المنعم واصل، قائد الجيش الثالث، يكتب خطبة لإشعال حماس القادة قبل العبور. استحسن الفريق الفكرة، إلا أنه رأى صعوبة تنفيذها، كون أن دوىّ المدافع وأزيز الطائرات سوف يشوشان على تركيز القادة خلال سماع الكلمة الحماسية. وتفتق ذهن "الشاذلي" فى لحظتها عن فكرة: "لماذا لا يكون الخطاب الحماسي للجنود هو ترديد "الله أكبر.. الله أكبر، عبر مكبرات صوت محمولة".

لقد فطن "الشاذلى" إلي قوة ذلك الهتاف، وتأثيره على روح الجنود، فأمر بجمع مكبرات الصوت المحمولة ـ الموجودة فى الجيش ـ كافة، وتسليمها للجنود على طول الجبهة، لإطلاق صيحة "الله أكبر، الله أكبر" خلال العبور، وهو الهتاف الذى انتقل كالعدوى إلى روح المقاتلين، وبث فى نفوسهم العزيمة.

"الشاذلى" يحتفل بين جنوده بنجاح خطة العبور فى زيارة له إلى الضفة الشرقية.. تلك الصورة أحبها الفريق

إضاءات على الخلاف الحربي

لو نظرنا بصورة عامة إلي الخلافات التي نشبت بين "الشاذلي"  و"السادات" ومعه "إسماعيل"، سنجد أنها نابعة من تمسّك "الشاذلي" بالرؤية العسكرية المبنية على معلومات؛ وواقع ملموس على الأرض، فى حين كانت وجهة النظر  المقابلة تجنح إلى أن لعبة السياسة ممكن أن تحل محل الرؤية العسكرية.

يمكن رصد هذه الحالة بوضوح في خلاف "الشاذلي" مع وزير الحربية حول قرار تطوير الهجوم (الذى طالب به أحمد أسماعيل يوم 11 أكتوبر، بهدف تخفيف الضغط الإسرائيلى على الجبهة السورية).

رؤية "الشاذلي" العسكرية تقول "إن أى تحرك للقوات المصرية خارج مظلة الدفاع الصاروخي سيعرضها للهلاك الحتمي، بفعل تفوق طيران العدو والسيطرة الجوية لإسرائيل". هذا بالتزامن مع حسابات عسكرية أخرى تفيد "أن القوات المصرية التى ستشارك فى "تطوير الهجوم" لن تشكل خطورة على الإسرائليين بشكل يدفعها إلى استدعاء بعض من قواتها من الجبهة السورية. فعلاوة على أن "تطوير الهجوم" مصيره دمار القوات المصرية دون تحقيق أى مكاسب، فأن الدفع بلواء مدرع، مستدعى من غرب القناة إلى الشرق، سوف يؤدى إلى حدوث خلل في القوات الدفاعية، المكلفة بمهمة سحق أي محاولة اختراق قد يقوم بها العدو نحو غرب القناة.

ورغم كل هذه الحسابات، التى طرحها "الشاذلى"، جاء القرار السياسى فى نهاية الأمر بحتمية تنفيذ "تطوير الهجوم" (يوم 14 أكتوبر) وقد حدث بالفعل. وخسرت قواتنا فى يوم واحد 250 دبابة، من مجموع 400 دبابة شاركت فى تطوير الهجوم، ومن أصل 1700 دبابة هى مجمل ما يملكه الجيش فى الحرب.

أمانة الشرف العسكري

لم يكن "الشاذلي" يومًا عاصيًا لقادته، بل هو مؤمن بأن العسكرية قائمة على احترام الجندي لقرارات القادة، وطاعة أوامرهم. حتى وإن اختلف معها. فقط، كل ما فعله "الشاذلى" هو التمسك بعرض رؤيته ـ الأمينة، المحترفة ـ على القادة، والدفاع عن تلك الرؤيا (في الفترة التى يسمح فيها القائد بالنقاش) لكن، في النهاية هو يلتزم بالقرار النهائي القيادة.

تلك هى روح "الشاذلى" فى تعامله مع واقعة "ثغرة الدفروسوار".

حكى "هيكل" شهادته (فى كتابه "السياسة والسلاح") عن تفاصيل الثغرة، وكيف قيمها "السادات" و"إسماعيل" منذ اللحظة الأولى


يوم 16 أكتوبر، حدثت الثغرة. ووقفت جولد مائير، رئيس وزراء إسرائيل، أمام الكنيست (فى نفس الوقت الذى كان يلقى فيه "السادات" خطاب النصر فى مجلس الشعب) وقالت: "الأن إن القوات الإسرائيلية تحارب شرق وغرب قناة السويس". تلك الجملة استوقفت الكاتب محمد حسنين هيكل وهو يتابع خطابها.

اتصل "هيكل" بالسادات؛ عقب خطابه، واستفسر منه عن ماذا يعنى قول "مائير": "إن قواتها تحارب غرب القناة". رد عليه "السادات":  "يبدو أن الأمور مفكوكة فى إسرائيل، وقد عملوا اليوم مسرحية، فبعثوا بشوّية دبابات "تبرجس"" (كلمة فسرها السادات بـ "يعنى فوتوا شوية دبابات يستخبوا وسط الشجر في غرب القناة علشان يقولوا أن لهم قوات هناك).

دقائق وأتصل الفريق أحمد اسماعيل بـ"هيكل" وقال له معاتبا: "ليس من الضرورى إزعاج الرئيس بأي خبر تنقله وكالات الأنباء" ثم أضاف: "كل ما هنالك هو 7 أو 8 دبابات "تبرجس"" (فسّر إسماعيل "تبرجس" بأنه الخيل عندما تتراقص). أى أن تقدير القائد العام للقوات المسلحة يومها: "أن ما قامت به إسرائيل هو حرب نفسية أكثر من كونه عمل عسكري".

قبل أن تحدث الثغرة بساعات، وتحديدًا يوم 15 أكتوبر، كان "الشاذلى" قد عرض على وزير الحربية فكرة إعادة القوات المتبقية من تطوير الهجوم إلى غرب القناة، لإحداث نوعًا من التوازن العسكري، إلا أن وزير الحربية رفض، وهو نفس الأمر الذى طالب به ـ بصورة مطورة ومنهجية ـ للقضاء على الثغرة التى تطورت وتوسعت بشكل خطير. ففى يوم 17 أكتوبر عبر إلى غرب القناة 300 دبابة للعدو، ولواء مظلات إسرائيلى. وبحلول يوم 18 أكتوبر أصبح للعدو فى غرب القناة 5 ألوية مدرعة ولواء مشاة (يتراوح عدد أفراد اللواء الواحد من 3 آلاف : 5 آلاف جندي)

خطة تطهير الثغرة التى تمسك "الشاذلى" بطرحها، بناها على الحسابات العسكرية التالية:

قبل الثغرة بيوم كان مجمل القوات الإسرائيلية فى سيناء 8 ألوية مدرعة. يقابلها فى الجانب المصرى 5 فرق مشاة و5 ألوية مدرعة (يتراوح عدد أفراد الفرقة الواحدة من 10 آلاف : 30 ألف جندي). وكان فى غرب القناة لواء مظلات وكتيبتين صاعقة (يتراوح عدد أفراد الكتيبة من 300 إلى 1300 جندي). وبعد حدوث الثغرة دفع العدو بخمس ألوية مدرعة غرب القناة (ما يعنى أن قوة العدو فى شرق القناة أنخفضت إلى 3 ألوية فقط فى مواجهة 5 ألوية مدرعة مصرية و5 فرق مشاة). وهو ما رأى "الشاذلي" وجوب سحب أربع فرق مدرعة من شرق القناة للانضمام إلى لوائين مدرعين مصريين فى غرب القناة، ليكون مجموع القوة المصرية 6 ألوية مدرعة فى مواجهة 5 ألوية للعدو. هذا التفوق المصري فى القوة ـ بحسب رؤية الشاذلى ـ كان كفيلا بسحق القوات الإسرائيلية.

"الشاذلى" فى غرفة القيادة عقب العبور حرب أكتوبر

تلك الخطة رفضها وزير الحربية، ما دفع "الشاذلى" إلي طلب تدخل "السادات" للاحتكام لرأيه. وبالفعل حضر السادات يوم 20 أكتوبر، وأصدر أوامر بعدم سحب أي جندي من شرق القناة. متجاهلا خطة رئيس الأركان.
وقد أخذت الثغرة في التمدد إلي أن تم وقف إطلاق النار. كانت قوة العدو فى غرب القناة عندئذ 3 فرق مدرعة و6 ألوية مدرعة و3 ألوية مشاة، وقد نتج عن الثغرة حصار العدو الإسرائيلى الجيش الثالث الميدانى (قرابة 45 ألف جندي) وكذلك مدينة السويس.

السادات عقب ألقاء خطاب النصر فى مجلس الشعب

 "أيوب" الجندية المصرية

 أن ما حدث بين "الشاذلي" و"إسماعيل" و"السادات" ما هو إلا خلاف فى وجهات النظر، ففى الوقت الذى فضّل فيه رئيس الأركان المناورة بالقوات خلال الحرب (وهو أمر عسكري متعارف عليه، وله وجاهته) رأيا وزير الحربية والقائد الأعلى للجيش أن سحب أي جندي من شرق القناة قد يؤدي إلي اهتزاز روح الجنود، وحدوث فوضي في ساحة المعركة مماثلة لما حدث في 67.

ذلك الخلاف، ما كان له أن يتحول إلى رحلة من ملاحقة "الشاذلي" للنيل منه، بدأت بعزله من منصبه فى ديسمبر 73، وإبعاده، بتعينه سفيرًا لمصر فى لندن، ثم نقله إلي البرتغال (كونها دولة أقل أهمية وثقل سياسى من بريطانيا) تخلل ذلك حرمان "الشاذلى" من التكريم العسكري عام 1974، كقائد له بصمات واضحة فى حرب عضدها بخبرته، واحترافيته، ودقته فى ساحة المعارك. وأخيرًا، إقدام "السادات" على محاولة تصوير "الشاذلي" أنه "شخصية عسكرية مهزوزة" وذلك فى مذكرات "البحث عن الذات" التى حمّل فيها "السادات" مسئولية تعاظم الثغرة إلى رئيس الأركان، ووصفه بـ "عاد من الجبهة يوم 20 أكتوبر منهارًا". وهى رواية نفى صحتها المشير عبد الغنى الجمسي (رئيس هيئة العمليات بالجيش المصرى خلال حرب أكتوبر) فى مذكراته.

عدوى الملاحقة انتقلت من عصر "السادات" إلى حكم "مبارك"، إذ حوكم "الشاذلى" ـ وهو القائد العسكري المظفر ـ بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وقضى فى السجن ما يزيد عن عام ونصف العام. وعمل على بخس الرجل حقه، ومحو إنجازاته فى حرب أكتوبر، لدرجة وصلت إلى حذف صوره من "بانوراما أكتوبر"، وأختصار ملاحم الحرب فى الضربة الجوية فقط. وغلق منافذ الإعلام فى وجه الرجل، فأصبح معزولًا فى وطن قاتل فى ساحات المعارك سنوات طوال من أجل أن يحرره.

 

كل تلك الصدمات جابهها "الشاذلى" بروح مقاتل مؤمن؛ بالله والوطن. لم يهتز يومًا أمام الأنواء، بقى مقاتلًا مرفوع الرأس.

طرح على "الشاذلى" سؤالًا (بعد سنوات قليله من خروجه من السجن) عن تقيمه لما فات قال: "راضى تمامًا عمّا فعلت. ولو عادت عقارب الساعة والأيام إلى الخلف لسرت فى نفس الطريق. اليوم أنا أنام مطمئن، مرتاح الضمير. لا أشعر بأنى قولت شىء كذب. أو خدعت دولتي. بل قولت الحقيقة. فأنا مؤمن بالقدر النابع من قوة الإيمان. لذا دائما أفعل ما أراه صحيحًا، أيًا كانت العواقب، والجزاء من عند الله".

المصادر
- مذكرات حرب أكتوبر | الفريق سعد الدين الشاذلى
- مذكرات حرب أكتوبر | المشير عبد الغنى الجمسى
- كتاب "البحث عن الذات" | أنور السادات
- أكتوبر 73 ـ السلاح والسياسة | محمد حسنين هيكل
- لقاءات تليفزيونية متنوعة للفريق الشاذلي، ووثائقيات أخرى ضمت شهادات لمقربين له.

برواز

[برواز][bigposts]