محمد زكريا يكتب: الذكريات الخائنة | نَص
![]() |
الصورة من موقع pexels - وفي الإطار الكاتب الصحفي محمد زكريا |
في زوايا القلب المُنهك، تكمن ذكرياتٌ مثل شظايا زجاجٍ مكسور، كلّما حاول المرء الإمساك بها جرحته حتى أدمعته. الحب الضائع ليس مجرّد عاطفة ولّت، بل هو جرحٌ لا يندمل، وشظيةٌ من الماضي تظلّ تنزف كلّما تذكّرتها. أما الوحدة، فهي الرفيق الأبدي بعد الرحيل، ظلٌّ أسود يُلاحقك في كلّ مكان، حتى في أكثر الأماكن ازدحامًا.
بقلم | محمد زكريا
كان الحب يومًا ما نهرًا جاريًا، يروي ظمأ الروح ويجعل الحياة تُشرق مثل شمس الصباح. لكنّه تحوّل فجأة إلى سراب، كلّما هرعت إليه وجدت نفسك تغوص في رمال متحرّكة من الوحدة. تلك اللمسات الدافئة، تلك الكلمات التي كانت تُشعل القلب حماسًا، صارت مجرّد صدىً بعيدًا في كهف الذاكرة.
لماذا نتمسّك بالحب الضائع؟ ربما لأنّنا نخشى أن نُقِرّ بأنّ السعادة كانت وهْمًا، أو لأنّ الاعتراف بنهاية الحب يعني موت جزءٍ منّا. فنظلّ نرسم صور الماضي بألوانٍ زاهية، نتمسّك بها كالغريق الذي يتشبّث بقشة، غير مدركين أنّ الذكريات الجميلة قد تصير سجنًا لا يُطاق.
الوحدة ليست غياب الناس حولك، بل هي شعورٌ بأنّك غير مرئيّ، حتى لو كنت بين الجموع. هي صرخةٌ صامتة في فراغٍ لا صدى له، جرحٌ لا يُرى لكنّه ينزف في صمت. بعد الرحيل، تصبح الوحدة خبزك اليومي، وشرابك المرّ، ووسادتك التي لا تعرف إلّا الدموع.
أقسى ما في الوحدة أنّها تُذكّرك دائمًا بما فقدته. كلّ شيءٍ حولك يتحوّل إلى شاهدٍ على الغياب: المقعد الفارغ، الكوب الثاني الذي لم يعد أحدٌ يملؤه، الصمت الثقيل الذي يخنق أنفاسك. تصبح الذكريات سكّينًا يطعنك كلّما أغمضت عينيك، فتسأل نفسك: هل كان الحب حقيقيًا؟ أم أنّنا كنّا مجرّد أوهامٍ في دربٍ طويل من الخيبة؟
![]() |
الصورة من موقع pexels |
الذكريات سيف ذو حدّين، فقد تكون جنّةً نستريح فيها من قسوة الحاضر، أو جحيمًا نعيش فيه كلّ يوم. نستعيد اللحظات الجميلة فنبتسم، لكنّ الابتسامة سرعان ما تذوب عندما ندرك أنّها لن تعود. الذاكرة خائنة، تختزل الألم وتكبّره، وتُضخّم الفرح حتى يصير استهزاءً بما نحن فيه الآن.
لكن رغم مرارتها، تبقى الذكريات دليلًا على أنّنا عشنا، أحببنا، تألّمنا.. وهذا بحدّ ذاته انتصار. ربما ليس المطلوب نسيان الماضي، بل تعلّم كيفية حمله دون أن يُثقِلنا. لأنّ الحب الضائع، وإن ترك جرحًا عميقًا، فهو أيضًا دليلٌ على أنّ قلبك ما زال قادرًا على النبض، والشعور، وربّما.. الحبّ مرة أخرى.
قد يبدو الألم أبديًا، لكنّ القلوب القوية هي التي تتعلم أن تنبض من جديد. لعلّ الحب الضائع لم يكن إلّا درسًا قاسيًا ليعلمنا أنّ السعادة لا تموت بموت علاقة، بل تنتظرنا في مكانٍ آخر، ربما حيث لا نتوقّع. والوحدة، رغم قسوتها، قد تكون فرصةً لنتعرّف على أنفسنا من جديد، لنعيد بناء ما تحطّم داخلنا.
فلا تيأس، فكلّ ذكرياتك، حتى تلك التي تؤلمك، هي جزءٌ من قصّتك. وربما يأتي يومٌ تنظر فيه إلى الماضي بابتسامة حكيمة، لا بدموع الضياع.