شباك

[شباك][twocolumns]

في صحبة «كامو».. مَن قتل «كاليجولا» الطاغية الفيلسوف؟


الكتاب: كاليجولا
المؤلف: ألبير كامو
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة
الثمن: 5 جنيهات

كتب ـ أحمد الرومي
«مازلت حيًا» جملة ختم بها ألبير كامو مسرحيته الشهيرة «كاليجولا»، وردت على لسان بطل المسرحية ـ الامبراطور الطاغية ـ قالها والخناجر مزروعة في خاصرته، وبصوتٍ سيطرت عليه حشرجة الموت، كان يعلم «كاليجولا» أن تلك ستكون نهايته، لما أقترفت يداه من مذابح شتي أقامها عامدًا متعمدًا في بلاده، وترويع الناس وبث الخوف والرعب في قلوبهم، والعبث بحياتهم لدرجة وصلت إلى أن دبّر مجاعة لشعبه.
و«كاليجولا» شخصية تاريخية حقيقية حكمت «روما» سنة 37 ميلاديًا، نشأ وتربّى في أسرة حاكمة، آل إليه الحكم وهو فى منتصف العشرينيات. في السنوات الأولى من حكمه تمتع بشعبية جارفة بين جميع طوائف الشعب الروماني، لقد كانوا يعتبرونه حاكمًا مثاليًا، إذ عمل على نشر الفضيلة بشتّي الطرق، أحدها عندما منح أحد العبيد المعتقلين هدية قيمتها 800 ألف «سنترس» (عملة رومانية) بعد أن رفض الاعتراف ضد سيده رُغم تعرضه للعذيب، وعفى عنه. إلا أنّ كل ذلك انقلب فجأة رأسًا على عقب، لأسباب غير معروفة على وجه التحديد، إذ اجتاحته رغبة مجنونة للطغيان.
تلك القصة سجلها المؤرخ «سويتون» في كتابه «حياة انثى عشر قيصرًا»، وقد التقطها الكاتب الفرنسي ألبير كامو، وصاغ منها مسرحيته تلك عام 1944، بعد أن هندسها فلسفيًا، مكملًا جميع مناطق الغموض حول فترة حكم الإمبراطور الروماني الذي ختم حياته بـ 30 طعنة.
تبدأ أحداث المسرحية بمشهد يبحث فيه رجال البلاط الملكي عن الإمبراطور «كاليجولا» الذي خرج هائمًا على وجهه بعد موت شقيقته التي كان يعشقها عشقًا محرمًا، وبعد ثلاثة أيام عاد الملك الشاب وقد بدا فى مظهر المشردين، وعندما سألوه أين كان قال: «أردت إدراك القمر»
كان يبحث «كاليجولا» عن المستحيل، بعد أن اكتشف عبثية الحياة، فقرر أن يصبّ كل قوى وعنفوان سلطته في إطلاق العنان لحريته، حريته في إسكات كل الأخرين، حريته فى أن  يكون الجميع بلا حرية!
أبرز «كامو» في حوارات بديعة دارت بين «كاليجولا» ومقربيه ورجال حاشيته، كيف أن سلطة الإمبراطور بنيت على تنازل الجميع عن حرياتهم، طوعًا أو جبرًا أو بالمساومة، حطّم «كاليجولا» جميع قيود المعقول، ووصل به الجنون إلى أن أسس بيتًا للدعارة ليكسب منه المال، ولمّا تراجعت إيراداته قرر إصدار وسامًا إمبراطوريًا جديدًا أسماه «وسام البطولة المدنية» يمنح لأكثر الزبائن ترددًا على بيت الدعارة كل شهر، على أن يعاقب بالنفي أو الإعدام كل مواطن لم يحصل على هذا الوسام بحلول نهاية العام.
لقد وصل «كاليجولا» إلى ذروة القسوة في حكمه، ما جعل الجميع يرضخ له، وتكسرت تحت وطأة قوته كل العزائم. يقول البطل في أحد مواضع المسرحية وهو مرتمي على أريكته ضاحكًا، محدثًا عشيقته:
«انظري إليهم يا سيزونيا ـ لقد أفلس القوم ـ وانمحى من صدورهم كل أثر من العزة والكرامة. ماذا أقول، لقد طارت الحكمة من رؤسهم. كل شيء تلاشى أمام الخوف. الخوف يا سيزونيا، هذا الشعور الجميل النقي المخلص، المجرد من كل شائبة، والذي لا يشبهه غير النادر من المشاعر النبيلة في انبعاثه حقًا من صميم الأحشاء...»
إنّ «كاليجولا» ـ رغم قساوته ـ كان يمقت الكذب، ولا يحب الخيانة، ويكره المداهنة والتملق، ويروق له الشجاعة، كان يرى في انسحاق الجميع أمامه مسوغًا للتمادي في قسوته، كما لو أنه يعاقبهم على رضوخهم لظلمه.
في مقطع آخر ينفي «كاليجولا» الطغيان عن نفسه قائلًا في حوارٍ له مع «سيبيون» وهو فتى في سن السابعة عشر، سبق وأن قتل «كاليجولا» أباه:
كاليجولا: وما هو الطاغية؟
سيبيون: قلب أعمى.
كاليجولا: هذا مما يشك فيه يا سيبيون. إنما الطاغية هو ذلك الذي يضحي بالشعوب في سبيل مبادئه وأطماعه، وأنني مجرد من المبادئ، ولم يبق لي ما أطمع فيه...
إنّ «كاليجولا» ألبير كامو لم يستبد ليحكم، بل كان يسعى لتلقين شعبه درسًا في الحرية.
يقول شيريا ـ وهو رجل في الثلاثينيات من عمره ـ أحد المقربين من الإمبراطور الروماني، والمتضررين من طغيانه، فى أحد حواراته:
شيريا: علينا أن نعترف بأن لهذا الرجل سطوة لا تنكر، فهو يدفع الناس إلى التفكير، إنه يرغم الجميع علي التفكير. إنّ انعدام الأمن يدفع الناس إلى التفكير، ولهذا يمقته الكثيرون. 
ولمّا لم يجد «كاليجولا» منهم مقاومة وغرقوا أمامه في الانسحاق، تجبّر وطغى وأمعن في إزلالهم، بل وصل به الحال إلى أن أصبح يتحدى الآلهة، قائلًا: «إن الإنسان ـ إن صدقت إرادته ـ يستطيع دون تلمذة أن يمارس مهنتهم المضحكة».
لقد أخطأت حسابات «كاليجولا» في رؤيته للحرية والخوف والسلطة، إذ كان في الوقت الذي يظن فيه أنه لن يقدر عليه أحد، كانت تعتمل في النفوس جذوة الغضب، تتقد في هدوء، تتحين وقت خروجها لألتهام كل شر.
يقول «شيريا» في موضع من المسرحية:
«فلنترك "كاليجولا" على هواه، بل لندفعه في هذا الطريق دفعًا، ونساعد هذا المفتون على تنفيذ مشاريعه. لن يلبث أن يأتي يوم يصبح فيه وحيدًا وسط إمبراطورية مليئة بالموتى وأهل الموتى».
ذلك ما كان يدور في عقول الناس ولا يدري به «كاليجولا»، لقد كان هناك مَن يتدثر بالخوف ليخفي حالة الترقب والتربص به، وقد قضوا عليه، لكنه أكد وهو يموت: «مازلت حيًا»
لقد أبدع ألبير كامو في معالجته لفكرة الحرية والسلطة والطغيان، وقدمها في مسرحية جديرة بالقراءة، للإستمتاع بحوارها الجذاب الشيق، وأفكارها الفلسفية التي تغمرك بالتساؤلات والتفكير.

برواز

[برواز][bigposts]