شباك

[شباك][twocolumns]

من «الأساتوك» إلى «عزبة محسن».. قراءة مزاجية في الأغنية الشعبية

  
المصريون يفضلونها حزايني.. مُحبّشة بالعنف.. مشوبة بالسياسة.. ومكدسة بالقيم

 كتب ـ أحمد الرومي

مَن يبحث في تاريخ الأغنية الشعبية، سيجدها حافظة لتقلّب "مزاج المصريين". تأرشفه من عقد لآخر. فالشارع المصري يبحث في الأغنية الشعبية عمّا يمس حاله ودواخل نفسه، يقدمها مغمورون، يسعون جاهدين إلى تقديم وجبة غنائية تلتهمها مسامع المصريين في نهم، دون تفكير أو تقييم.

وفي سوق المغامير يحتدم السباق، لكنّ مَن يبقى فقط هو مَن ينجح في إصابة "سوادة" كيف المصريين. حينها يرفعه الجمهور من هاوية الغمر، إلى عنان السماء، فيتبدل حال المطرب الشعبى بأخر، بعد أن تلتقفه أيادى عتاولة الإنتاج المحترف، تهذّبه، وتقلّم أظافر فنه العشوائى، التلقائى. فيحدّ ذلك من بريق توهجه في ذائقة الشارع. وينصرف عنه الجمهور؛ باحثًا عن مغمور جديد يصطفونه، ويرفعونه إلى عنان السماء، بعد أن يروي ظمأ مزاجهم المتغير دائمًا.
على مدار قرابة أربعة عقود مضت، مرّت الأغنية الشعبية بمراحل تطور عديدة، كان المتحكم الرئيس فيها هو "مزاج المصريين"، المتأثر بالأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحيطة به.
فمن عقد لآخر تتغير مواصفات الأغنية الشعبية، شكلها، ومضمونها، ونوعية مقدميها. لكن ـ رغم كل هذا التقلب ـ يبقى هناك عدد من المعايير تظل راسخة في عصب الأغنية الشعبية. قد يخفت هذا المعيار حينًا؛ وقد يزدهر ذاك فترة، لكن، لا يمكن لأغانينا الخارجة من بطن الشارع أن تحيد عن تلك المعايير، وإن تعاقبت عليها الأجيال.


قد تتغير مواصفات الأغنية الشعبية لكنها تظل محتفظة بمعاييرها الراسخة، مهما تعاقبت الأجيال

حُراّس الوجع
على مرّ تاريخ الغناء الشعبي تبقى الأغنية "الحزايني" قدس الأقداس لدى السمّيعة، فالمصريون ميالون للحزن، يستمتعون بالألم المتولد من قسوة حبيب، أو جور الزمن، أو جلد الذات. يستطعمون الشجن في اللوم والعتاب.
فمن ينسى حال الشارع المصري (أوائل الألفية) وهو يتلوّى على صوت المطرب طارق الشيخ مغنيًا: "بعد ما عدى العمر وفات/ قفلت عليا بابي/ وقولت أعيد حسابي/ لقيت إن الزمن ده/ ماخترش غير عذابي". ومن ينسى حسن الأسمر الذي سطع نجمه بعد أن بكى أطلال عمره في أغنية "كتاب حياتي"، استمر المصريون يستدعون الشجن من دواخلهم وهم يرددون "الفرح في سطرين/ والباقى كله عذاب".
خلال فترة التسعينيات، برز عديد من النجوم نجحوا في هذا اللون الغنائي، منهم رمضان البرنس، الذي عرفته مصر كلها عبر ثلاثة أغانٍ (من أصل 10 ألبومات صدرت له، تضم 83 أغنية) منها أغنيتان مغلفتان بالحزن على فقد الحبيب، هما "عودي"، و"ارجعى". والأغنية الأشهر "موال الصبر"، ويرصد فيها قصة مدرس أصيل، لم يتخل عن تلميذه النمرود بعد وقوعه في أزمة.
ولو عدنا إلى المطرب حسن الأسمر ـ كنموذج ـ سنجد أن أشهر أغانيه فى التسعينيات، خرجت من رحم الحزن، ففى عام 1994 غنّى "كتاب حياتي يا عين"، تبعها بثلاث أغنيات أضحت الأقرب للشارع المصري، هى "اتخدعنا" و"طعم الأيام بقى مُرّ" و"يا خوفي"، صدرت جميعها عام 1996.
ومن الثمانينيات تطل علينا "ما تبكيش عليّا يامّا"، الأغنية الأشهر للمغني علي موسى، يتطرق فيها إلى ألم الغربة والفراق: "خللي الشمع منور يامّا/ أوعى تباتي فيوم ع الضلمة/ لو عايزاني ارتاح ف الغربة ارتاحى يامّا ماتتعابيش/ ماتبكيش".

عشّاق للدراما
تسيطر روح الدراما (بالمعنى المسرحي) على جوهر الغناء الشعبي، فالمصريون يستهويهم سماع القصص والحكايات في الأغنية الشعبية، ليأخذوا منها العبرة والعظة، أو يستلهموا منها روح البطولة، في محاكاة تشبة السير الشعبية القديمة.
وللمغني عبد الباسط حمودة أغنية تسربت ـ في فترة التسعينيات ـ من كل مقهى، ودُكّان، وميكروباص، اسمها "قصة الخاينين" أشهر مقاطعها: "التار التار أرحم م العار".
يحكي "حمودة" تفصيليًا ـ فى أغنيته الطويل ـ قصة فتاة استطاع شاب خداعها باسم الحب، وسلبها عذريتها، وعندما علم أهلها بالأمر أقدموا على قتلها، ثم بحثوا عن الشاب وقتلوه. كل هذا تمّ تحت شعار "التار أرحم من العار". ورُغم أن الأغنية تروج لشريعة الغاب، وتدعو إلى عدم الامتثال للقانون، إلا أنها لاقت رواجًا كبيرًا في الشارع وتماست مع مزاجه.

مسّت أغنية "قصة الخاينين" لعبد الباسط حمودة مزاج المصريين رغم دعواتها الصريحة لدولة اللا قانون

المغني حمدي بتشان صعد نجمه، فى أواخر الثمانينيات، بأغنية "أنا واد خلاصة"، غازل فيها روح الشباب "المطقطق"، "المخربش". وأحدثت صدًى واسعًا في الشارع، غنّى "بتشان" فيها بلسان حال شاب يحاول استمالة فتاة يتودد لخطبتها، وهى ترفضه. قدّم تلك الحكاية في صورة حوار دار بين "أم الفتاة" و"أرجوز" و"الفتاة"، والأخيرة كانت تردد ـ على مدار الأغنية ـ جملة واحدة: "أنا قولت لاء وهي لاء/ عايز تخطبني بأي حق؟".
ولـ "بتشان" أيضًا أغنية ذائعة الصيت اسمها "أيه الحكاية" (معروفة شعبيًا باسم "أيه الأستوك ده") تناقش ـ فى شكل دراما حوارية بين ثلاثة أطراف هم المطرب، وعجوز، وشابة ـ قضية تعرض رَجُل مُسن لفتاة لفظيًا، فما كان من "بتشان" (يقوم بدور المخلص في الأغنية) إلا أن تدخل لإنقاذها من هذا العجوز المتصابي.
ولأن تأثير الدراما في الأغنية الشعبية قويًا، كرر مجدي الجندي نفس تجربة "بتشان" ـ وبنفس الموضوع ـ في أغنية "هيجوزوني" التي غناها منتصف التسعينيات، وأحدثت دويًا مماثلا، رُغم تطابق موضوعها:
- صوت العجوز: هيجوزوني/ هيجوزوني/ هيجوزوني.
- صوت الشابة: يا راجل دا انت رِجل جوة ورِجل برّة/ ابعد وسبني قولتهالك ألف مرّة/ يا مجدي، الحاقنى.
- صوت المطرب: جرى أيه يا عجوز يا ملخلخ/ يا تخين قوي قوي ومتختخ/ بفلوسك جاي تشخشخ وانت ترللي وترباتوه.

مجدي الشربيني

ومن الأصوات اللامعة في الثمانينيات ولاقت قبولًا لدَى السمّيعة، مجدي الشربيني، ففي أغنية "حبّناهم" لجأ إلى طريقة الدراما، إذ تبدأ الأغنية بصوت فخيم يقول "حبّناهم، ومشينا وياهم/ قولنا كلام، وقالولنا كلام/ ولا في الأحلام/ يا سلام يا سلام/ وف الأخر..." فيتبعه "الشربينى" مغنيًا: "لعبوا بينا/ غدروا بينا/ جرّحونا عذّبونا".
ويظل قالب الدراما الحوارية أحد أعمدة الأغنية الشعبية، مهما تغير الزمن، إذ تجدونه في أغنية "اديني رمضان"، التي راجت في الشارع مؤخرًا، وأداها مغنيان مغموران اسمهما "تايسون" و"موزة"، عام 2017.

  دِماغ إنسانية
يتشبث مزاج المصريين ـ على طول الخط ـ بجوهر القيم الإنسانية والأخلاقية في الأغنية الشعبية، لذا تجدها حاضرة دائمًا في موضوعات ومضامين الأغنيات. فالأمانة، والأصول، والرجولة، والشهامة، و"الصحوبية"، والشرف، كلها معاني لها باع طويل في الأغاني الشعبية، إلى جانب صفات "الغدر" و"القسوة" و"الخيانة"، جميعها ترد فى الأغنية بشكل سافِر أو مستتر.
فقيم التسامح والشهامة التي عبّر عنها رمضان البرنس في "موّال الصبر"، أواخر التسعينات ("تلميذ قليل الأصل واتحكم فيى أستاذه/ ودارت الأيام والتلميذ احتاج لأستاذه/ أستاذه لمّا عرف وقف معاه في شدته/ شاله من أزمته") كانت حاضرة بنفس اللهجة والقوة في أغنية "آه لو لعبت يا زهر" للمغني أحمد شيبة عام 2016 (آه لو لعبت يا زهر/ لروح لأول واحد احتجت له في سؤال/ كسر بخاطري ساعتها ودوّقنى ضيق الحال/ واعمل معاه الصح واسنده لو مال/ واقف جنبه في المحن وأكون طويل البال).

قيم التسامح والشهامة التي عبّر عنها رمضان البرنس فى "موال الصبر" أمتدت لأغنية "اه لو لعبت يا زهر" لأحمد شيبة


ويروق للشارع المصري قالب "جلد الذات"، أحد الأساليب التي يستخدمها المغني الشعبي في تقديم هذه القيم للجمهور، وتبقى أغنية "سامحنى يابا" للمغني عبده الإسكندراني مثال حي على معالجة قضية "التفكك الأسري" بذات الأسلوب.
"اللي عايزني يجيني أنا مابروحش لحد" أغنية لمجدي طلعت، غنّاها أواخر التسعينيات، اتخذها الشارع شعارًا للترفع عن الخوض في صغائر الأمور، من باب تعزيز النفس، والاعتداد بها.
كما أن "الزمن" (برمزيته الإنسانية الواسعة) جزء أصيل من الأغنية الشعبية، يكاد لا يخلو ألبوم غنائي شعبي من وجود أغنية أو عبارة عن الزمن. وتاريخ الأغنية الشعبية المصرية غني بآلاف الأغاني التي كان فيها الزمن حاضرًا بقوة، تمامًا كما هو الحال في أغنية أشرف المصري "من غير عتاب" ويخاطب فيها الزمن بصورة مباشرة: "من غير عتاب يا زمن/ نفسي اسألك سؤالين/ جرحت ليه ـ يا زمن ـ القلب ويّا العين/ ومنين أجيب الدوا/ اداوي بيه لاتنين/ عذاب عذّبتني/ جروح وجرّحتني/ مرار شرّابتنى/ هدّيتني ضيّاعتني".

 مزاج المصريين يعيد تشكيل أغنية الشارع

(1)
تعرضت الأغنية الشعبية لتغييرات جذرية في بنائها، جرت على مراحل متعددة. كان السبب فيها تأثر مزاج الشارع بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمع بداية الألفية الثانية بدأ الصوت النسائي الناعم يختفى من الأغنية الشعبية، بعد أن كان عنصرًا أساسيًا فيها ـ سواء بالحضور الثانوي في صورة "كورال" يردد خلف المطرب، أو تواجد محوري بإقامة الصوت النسائي حوار مع المطرب (كما هو الحال فى أغنية "الأستوك")، هذا التحوّل تزامن مع بداية صعود "التيار الإسلامى" في المجتمع.

الست روح الفؤاد

وهنا يجدر الإشارة إلى أن غياب الصوت النسائي عن بناء الأغنية الشعبية، لم ينسحب على وجود المرأة كمطرب شعبي له جمهوره. فهناك رائدات ونجمات لمعن في هذا الفن، كوّن أمبرطوريات تليدة في مزاج المصريين. منهن المطربة "شفيقة" التي جمعت بين الصوت الطربي والغناء الشعبي، وأشهر أغانيها "زعلانة منك" عام 1995، و"أنا مش راح انسى". يزاحمها في هذا المضمار الست "روح الفؤاد" بأغانيها الناعمة، عذبة الكلمات والموسيقى. كلتاهما ساهمت في تعزيز سلطنة الشارع المصري لسنوات طويلة، وتظل أغانيهما إلى الأن لها صدى مسموع ومحبوب.
وعلى امتداد خط الحضور الأنثوي في الغناء الشعبي نجد الشارع يحتفي، عام 2009، بالمغنية مريم جمال، بعد غنائها بروح كوميدية ناعمة "الجوازة الشيك"، وفيها تحكي قصة زواج "وزّة" من "ديك"، بما في ذلك من إسقاطات.

(2)
لعب الوضع السياسي دورًا مهما في تغيير وتوجيه "ذائقة الشارع" للأغنية الشعبية، فعقب اغتيال الرئيس السادات عام 1981، وتولي الرئيس الأسبق حسني مبارك الحُكم، دخلت مصر مرحلة ما سمى بـ "الاستقرار"، وشهدت تحسنًا وهدوءًا نسبيًا في أوضاعها، احتفى الشارع وقتها بأغنيات شعبية ذات مزاج عاطفي وإجتماعي، واستمر الوضع على هذه الوتيرة فترة من الزمن، إلى أن دخلت السياسة ـ بصورة سافرِة ـ في الأغنية الشعبية، عام 2004. عبر المطرب المغمور (حينها) شعبان عبد الرحيم، الذي لمع نجمه بغنائه "أنا بكره اسرائيل".
رغم مساندة هذه الأغنية لمبارك؛ إلا أنها تسببت في قلقًا مكتومًا داخل نظامه، بامتدح "عبد الرحيم" وزير الخارجية: "بحب حسني مبارك عشان عقله الكبير/ لو خطى أي خطوه، بيحسبها بضمير... بحب عمرو موسى وكلامه الموزون".

شعبان عبد الرحيم أول من زج ـ بشكل سافر ـ الأغنية الشعبية في السياسة

لقد وضع "عبد الرحيم"  الوزير عمرو موسى مع الرئيس "مبارك" في جملة واحدة، وهو ما فسره مراقبون ـ حينها ـ أنه كان سببًا في إقصاء "موسى" من "الخارجية"، وإرسالة سريعًا إلى جامعة الدول العربية. لتكون "أنا بكره اسرائيل" أول أغنية شعبية فى الأربع عقود الماضية تتسبب في تحركات سياسية، بعد أن احتفى بها الشارع لأنها راقت لمزاجه.

 ظهور "الموالد".. الأغنية الشعبية تتمرد
تزامنًا مع التحوّل الكبير في السياسة المصرية عام 2005 (بإعلان "مبارك" عن تعديلات دستورية تخص آلية اختيار رئيس الجمهورية، من الاستفتاء إلى الانتخاب) حصل تحوّل كبير ـ موازٍ ـ في الأغنية الشعبية، إذ ظهر ما سمى بـ "الموالد"، وهو نوعٍ من الأغاني يعتمد على رصّ كلمات مسجوعة بجوار بعضها البعض، تلّف الكلمات نغمة ثابتة، عالية الإيقاع (لا يمكن أن نسمها لحنًا بالمعنى المتعارف عليه). هذا التحول توازى مع بداية شعور الشارع بتردى الأوضاع من حوله.
هذا النوع من الأغاني ـ رُغم ركاكة أسلوبها وموسيقاها، ورداءة جودتها، إلا أنه ـ يعد تحررًا نوعيًا للأغنية الشعبية التقليدية. وقد أقبل عليها السمّيعة بقوة؛ بعد أن تناولت ما يعانيه الناس بشكل أكثر واقعية ومباشرة، نتيجة خروج صناعة الأغنية عن سيطرة الشركات المنتجة، المتحكمة في سوق الغناء الشعبي، عبر امتلاكها فرق موسيقية واستديوهات وملحنين وموزعين، وصاحب رأس مال يريد أن يأكل عيشًا في مأمن من غضب السلطة. فقد حلّت التكنولوجيا محل كل هذا، وأصبح بإمكان أي شخص يمتلك كمبيوتر شخصيًا أن يُنصّب برامج صوتية تمكنه من إنتاج الأغنيات التي يريدها.

فريق شعبي يغني "مولد الدنيا خربانة" ـ الذي ظهر عام 2007 ـ  ولكن بتوزيع جديد

عرف الناس اللون الجديد من الغناء الشعبي عام 2007، عبر مولد "الدنيا خربانة"، وقد نال شهرة واسعة جعلته متداولًا على مواقع التواصل إلي الآن، ويوزع موسيقيًا بصور مختلفة، مع تغيير بعض كلمات الأغنية، التي تقول: "المنيب خربانة، في المنصورة خربانة، في الطالبية خربانة، في امبابة خربانة، في القدس خربانة، في المنيرة خربانة".
تزامن ظهور هذه الأغنية مع عدد من الأغاني تحمل معاني (عفوية، ضمنية) تشير إلى التوحش الرأسمالى المستشري وقتها، مثل أغنية "أحنا في زمن الوحوش/ دي ناس مابيرحموش/ حوش يارب... معاك فلوس تدوس/ الناس تحضن تبوس".
فمنذ عام 2005 وصاعدًا، يمكن رصد حالة التغيير في مزاج المصريين، فكلما زادت الحالة الاقتصادية سوءًا، وكلما أضطرب الوضع السياسي، كلما كانت الأغاني الشعبية أكثر قسوة وصخبًا. وكلما تراجعت يد الدولة عن تطبيق القانون، زحفت إلى الأغاني الشعبية مفاهيم العنف (عبد الباسط حمودة وأغنيته "التار أرحم من العار" في مطلع الألفينية، يقابلها أغنية "مافيش صاحب بيتصاحب" (ويطلق عليها "عزبة محسن" فى رواية أخرى) التي راجت عام 2015، والأخيرة تعد إعلان صريح لتكريس الصراع المجتمعي، وعدم الاعتداد بالقانون، فكلماتها تقول: "هنتعامل ويتعامل طلع سلاحك متكامل/ هتعاورني هعورك/ وهبوظك منظرك/ جايب ورا تصبح مرة/ مالكش قيمة وسط البشرية.")
اللافت في أغنية "مافيش صاحب بيتصاحب" أنّ صنّاعها مراهقون (فريق شبيك لبيك) ورغم ذلك تَكَالَب على سماعها الشارع المصري كونها تماست مع مزاجه.

 عرش الأغنية الشعبية يهتز
لم تستطع الأغنية الشعبية الاستمرار في الاستحواز على مزاج المصريين بعد رحيل مبارك، رُغم محاولاتها الحثيثة للتواجد، عبر أغنيات تحتفي بنجاح الثورة، مثل مهرجان "ثورة 25 يناير".
لقد امتصت ثورة يناير احتقان المصريين واستنفذت غضبهم، ما أدى إلى انحسار الأغاني الشعبية في الشارع، وطفت مكانها على السطح فرق "الأندرجراوند" الشبابية، التى تقدم فنًا راقيًا، هادئًا حتى في صخبه.

استنفذت ثورة يناير غضب الشارع فانحسرت الأغنية الشعبية وطفى على السطح فرق الأندرجراوند (أعضاء فرقة تابوه)

ثم ما لبثت أن انحسرت هذه الفرق مجددًا شيئًا فشيئًا، مع ارتفاع وتيرة التدهور الاقتصادي والسياسي والأمني، فعادت الأغنية الشعبية في ثوب ما يسمى "المهرجانات" وسطع نجم الثنائى "أوكا" و"أورتيجا" عام 2012، وأصبحا ملوك المهرجانات لفترة، نافسهم خلالها الثنائي "سادات" و"علاء فيفتى".

 الشارع لا يقبل الأغاني المضروبة

في افتتاحية هذه القراءة أشرنا إلى أن المصريين لا يقبلون أن يزيّف لهم أحد مقبّلاتهم المزاجية، وإذا ما شعروا بذلك، سارعوا في البحث عن مزاج بديل أصلي، لم يعبث به أحد.
فجميع المطربين الشعبيين (مَن ورد ذكرهم في هذه القراءة، ومَن لم يرد) سعى إليهم المنتجون، ليظهروا في إعلانات تجارية لمساحيق غسيل، أو شركات اتصالات، أو سلع غذائية. أو ضمّنوا في أعمال فنية بغية إكسابها زخمًا جماهيريًا.
ودخول الأستديوهات له حسباته، فما يقبله منتج الهواية، قد لا يقبله منتج الاحتراف، حينها تتفكك حالة عفوية المغامير، وينفض الناس عنهم، لأنهم لم يعودوا المطربين الذين اصطفوهم فى أول مرة.
والأمثلة على ذلك عديدة، فمراهقو "مافيش صاحب بيتصاحب" عقب انتشار الأغنية أصبحوا نجوم إعلانات تجارية في القنوات الفضائية "الترسو"، وتلقفهم منتج أفلام شعبية وحشرهم في أحد أعماله، بنفس الأغنية التي راجت، بعد أن هذّب كلماتها، لتخدم مصالحه، فما كان من الشارع إلا أن انصرف عنهم.


سادات وعلاء فيفتى خلال العرض الخاص لفيلمهما "المهرجان"

الأمر نفسه حصل مع "أوكا" و"أورتيجا"، و"سادات" و"علاء فيفتى" فبعد أن تلقفهم منتجو الأفلام ليطلوا على الناس مجددًا، بسياق دارمي مرسوم، محكوم، انفض عنهم الشارع، ولم يعد يسمع لهم أحد صوتًا. لقد فقدوا زخم التواجد في مزاج الشارع المصري، الماهر في صيد "الكيف".

برواز

[برواز][bigposts]