شباك

[شباك][twocolumns]

حكاية «قنبلة الدخان» التي هَدَت إبراهيم عبد المجيد للإبداع

الروائي إبراهيم عبد المجيد ـ الصورة من الإنترنت
إعداد ـ روميكا.أورج
يحكي الكاتب الكبير والروائي إبراهيم عبد المجيد في كتابه «ما وراء الكتابة» كيف أن «قنبلة دخان» كانت سببًا في إيمانه أنه خلق للإبداع والكتابة وليس للعمل السياسي، الذي كان منخرطا فيه بشكل سري من خلال انضمامه للحزب الشيوعي المصري. يقول «عبد المجيد» فى حكايته:
يناير 1977 وأنا أعود من رحلتي الليلية كل صباح لأنام. ولم أحب القاهرة أبدًا بالنهار، صحوت ظهرًا كالعادة، ونزلت من الشقة لأتناول إفطاري في محل ألبان «أبو حشيش» الشهير بدير الملاك، وأنتهي لأجد الهرج فى شارع الملك، ملك مصر والسودان، قادمًا ناحيتنا. شباب يطاردهم البوليس. ما الذي حدث؟ المظاهرات أندلعت في كل البلاد من الإسكندرية إلى أسوان، ولا تزال جامعة عين شمس تقذف بطلابها من العباسية إلى شارع رمسيس فى اتجاه «نص البلد».
لم أعد إلى البيت إلا فى اليوم التالي بعد حظر التجوال. مشيت مع المتظاهرين. معارك في غمرة ومعارك فى ميدان رمسيس. هتافات وحشود من كل الأزقة وقنابل مسيلة للدموع.
*
كانت قنبلة معي في يدي لا تفارقني. قنبلة غاز مسيل للدموع. جاءت ناحيتي أمس ونحن قرب غمرة، تفاديتها وتابعتها وهى تسقط على الأرض وتتدحرج ولم تنفجر، جريت إليها أمسكتها ولا أعرف أي شيطان وسوس لي أن أحتفظ بها.
كانت في حجم علبة السفن أب التي لم تظهر بعد. كانت زرقاء جميلة عليها بلد الصنع، الولايات المتحدة الأمريكية، وظلت معي حتي اليوم الثاني.
*
أعلن حظر التجوال من الساعة الرابعة عصرًا فتفرق المتظاهرون. مشيت وحدي في الأزقة فوجدت نفسي في شارع رمسيس الذي صار خاليًا من المتظاهرين والبوليس، وبدأت تظهر فيه بعض العربات العسكرية وبعض الدبابات. عبرت الميدان بسرعة إلى محطة كوبري الليمون. سأذهب إلى دير الملاك حيث أسكن ماشيا على شريط قطار المرج. هنا لن يتواجد جيش ولا بوليس. وكانت القنبلة معي!! لقد قررت أن أحتفظ بها وأفرغها في الصحراء وأنا في طريقي إلى الإسكندرية وأستخدمها بعد ذلك «مقلمة» ـ تصور!! ـ أضع فيها الأقلام وتذكرني دائمًا بما جرى. جنون غريب كان سببه المباشر جمال القنبلة!!  
*
(في البيت)... جلست أفكر ماذا أفعل. سيتم القبض على جميع اليساريين الليلة... أخذت القنبلة وتوكلت على الله في طريقي إلي أحمد الحوتي من بين الأزقة التى لا يمكن أن يكون بها جيش ولا بوليس!!
في منتصف زقاق طويل وجدت عددًا من الشباب يأتون مسرعين. لقد ناوشوا رجال الجيش في شارع الملك الذين بدورهم أتوا وراءهم في سرعة وأغلقوا الزقاق من الناحيتين. اختفى الشباب في البيوت ووقفت أنا مندهشًا من نفسي والقنبلة في يدي. ماذا تفعل يا مجنون؟ قلت لنفسي، ودخلت بيتًا مهجورًا قديمًا صغيرًا شبه مهدم وتركت القنبلة تحت السلم وخرجت أمشي بثبات ناحية آخر الزقاق لأقابل قوات الجيش. عرّفتهم بنفسي وقلت لهم أنني مضطر للخروج ليلًا والذهاب إلى صديق غريب مثلي عن القاهرة لكنه مريض ويسكن فى محطة التعاون القريبة ويحتاجني. الجو بارد حولنا وبدا لهم أني صادق فتركوني أمر على أن لا أترك الأزقة أو أدخل شارع الملك... ووصلت إلي أحمد الحوتي الشاعر الجميل والصديق الأجمل.
*
(فى اليوم التالي، وقبل موعد حظر التجوال) ...وأمام البيت المهجور وقفت أفكر في القنبلة. دخلت لآخذها مرة أخرى فلم أجدها. هل كنت حقًا سآخذها؟ لا أعرف.
وكل عام، فى يناير أفكر فى البيت المهجور ومَن يا ترى أخذ القنبلة وماذا فعل بها؟ أفكر في نفسي، شاب وسط المظاهرات الصاخبة يفكر في أن يحتف بقنبلة ليصنع منها مقلمة يضعها على مكتبه. أقول هذا جنون فنان وليس رجل سياسة. لذلك لم تمض شهور إلا وتركت الحزب الشيوعي المصري وكل عمل منظم.
لكن هذا القرار لم يكن سهلا أن آخذه بسرعة. ترددت كثيرًا حتى جاءت ليلة التقيت فيها مع الكاتب والروائي عبد الوهاب الأسواني... وحكيت له حكاية القنبلة كاملة وكل ما جرى معي تلك الليلة وبعدها. ضحكنا كثيرًا وهو ينظر لي بدهشة. لم تخلق للعمل الحزبي يا إبراهيم. الفن أبقى. هكذا قال، وتحدثنا تلك الليلة عن الأدباء الذين أرهقتهم الأيدولوجيا وضغوطها في العالم، وكيف انعتقوا من ذلك بالخروج من العمل الحزبي المنظم. ثم قال لي جملة لا أنساها أبدًا. هناك عشرات يستطيعون حمل المنشورات وتوزيعها لكن هناك دائمًا أديبًا واحدًا أو فنانًا واحدًا

برواز

[برواز][bigposts]