هكذا أصبح الإبداع «تخليص حق»!
عند كاشير جناح الهيئة العامة لقصور الثقافة في معرض الكتاب، كان لي ثلاثة جنيهات باقي مبلغ دفعته ثمن عدد من الكتب انتقيتها بعناية. بحركة مباغتة أضاف الكاشير - منفردًا - كتابًا بجواره قائلًا لي: «دي رواية ب2 جنيه، هتعجبك».لم يكن ترشيحه لي قرائي بقدر ما كان محاولة منه لإيجاد مخرج مناسب لتعويض عجز الفكة لديه.
لم أعترض علي مبادرته، فأنا لا أقوى أن أقول لكتاب لا.
بعد أن غادرت، تفحصت الكتاب وجدته رواية اسمها «ماضي» لمؤلف اسمه أحمد الزناتي. لم أسمع عن الرواية أو الكاتب من قبل.
توقفت أمام تلك الواقعة فيما بعد، شعرت بوجعٍ يسري في داخلي عندما قادني تفكيري إلى أنّ هناك كاتب أجتهد وأجهد نفسه من أجل إنتاج عمل إنساني، فأصبح مصير أحد نسخه أنها توزع «تخليص حق».
حاولت أن أعالج الأمر بأن أخترت تلك الرواية لتكون مفتتح قراءاتي، متخطيًا كل الكتب المتنوعة التي أشتريتها، فعلت ذلك ربما رددت عن تلك الرواية بعضًا من شعورها المبطّن بالإهانة.
التهمت الرواية الصغيرة - الواقعة في 130 صفحة - دفعة واحدة. أسلوبها يشير إلى أنها لكاتب واعي لأدواته، متمكن من اللغة، رواية بالعربية الفصيحة، سلسة، غنية، مطعمة باللهجة العامية الرصينة. أحداثها متلاحقة، كل صفحة تبني للصفحة التي بعدها وتكشف أبعادًا جديدة في الصفحة المطوية. رواية متماسكة تعبئك بالتساؤلات الحياتية.
وأنا أتابع القراءة كان يدور هناك في وعيي الموازي تساؤلات من نوع آخر أبرزها، كيف روائي مثل أحمد الزناتي ليس من كتاب ال «بيست سيلر»؟
هذا السؤال استدعى في ذهني بوست تعثرت فيه لكاتبة مستجدة نشرته علي صفحتها تحكي بالصور وقائع حفل توقيع روايتها في معرض الكتاب، وكيف أن الحفل تحول بفضل كثافة جمهورها لمظاهرة تطالب بتوقيعها علي نسخة من الرواية، وهو الأمر الذي أقلقت أمن القاعة، فسارعوا بإخراجها منها، ثم اتسعت رقعة جماهيرها من القراء في بهو القاعة، فأخرجوها إلى خارج القاعات، ولمّا استمر التجمهر حولها طالبها الأمن بإنهاء حفل التوقيع عندما أحسّوا أنّ الأمر قد يخرج عن السيطرة!!
هذه الواقعة - الموثقة بالصور - أثارت فضولي لمعرفة ماذا تكتب؟ بالبحث وجدتها قد نشرت مقاطع من روايتها. لن أنل من كتابتها، فربما اختارت مقاطع غير موفقة لتصدرها عملها، ولكن بخبرتي - المتواضعة - في الكتابة، ومن واقع عملي وممارستي لها، أستطيع أن أقول أنّ كتابتها في حاجة إلى كثير من العمل والاجتهاد حتى تستطيع أن تصل إلى مرتبة «نصف روائية».
هذه الكاتبة تحتل نسخ روايتها ربع جدار في جناح دار نشر شهيرة، تباع النسخة منها بالشيء الفلاني، بينما كاتب مبدع مثل أحمد الزناتي توزع روايته تخليص حق!!
أي معايير هذه التي تحكم سوق القراءة!
بحثت عن معلومات عن الكاتب أحمد الزناتي، حيث أن روايته (الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة) لم تذيّل بأي تعريف عنه، ولا إشارة، ولا نبذة عنه تقول للقارئ مَن هو المؤلف الذي يشير الغلاف إلى أن روايته تلك فائزة في مسابقة للكتابة الإبداعية!
من بحثي المستقل، السريع، عرفت أن «الزناتي» شاب في أواخر الثلاثينيات، وسبق أن فازت إحدى رواياته بجائزة الشارقة للإبداع العربي، وأنه مترجم، لم أجد للمؤلف صورة شخصية، بعكس الكاتبة المشار إليها صورها تملأ الدنيا ويعرف الناس عن شكلها أكثر مما يعرفونه عن كتابتها!
أن الكتابة تحولت إلى صناعة وليست موهبة، فعل بها رأس المال الأفاعيل، هناك دور نشر تصطاد مشاهير «السوشيال ميديا» لتأكل من عرق متابعيهم، لا محتوى، لا ذائقة، إنهم تجار تجار تجار. لا علاقة لهم لا بالأدب ولا الإبداع، ماكينة جرارة مَن صناعة الوهم، ما يقدمونه لنا ليس إبداعًا خالصًا، بل هو إبداع معدل وراثيًا، إبداعًا ملعوب في چيناته، منتقى انتقاء مجحف، يجري هذا في حضرة ماكينة ثقافية رسمية مثقلة بالبيروقراطية، دولاب عملها «مفشخ من كل حتة» لدرجة أنها تقدم للناس أعمالًا جيدة لكنها لا تجيد التسويق لها، تطبع الكتب (وأمهات الكتب) والسلام، وكأنها تريح نفسها من تأنيب ضميرها، وليس من أجل أداء دور فعال في المجتمع.
كيف تسوق تلك الماكينة الحزينة منتوجها، إذا كانت البيروقراطية لا تعرف التسويق!
لقد اختلت موازين كثيرة، ياما مات مبدعون حقيقيون كمدًا على إبداع قدموه لم يلق بحفاوة ولم يشمل بتقدير ولم ير النور حتى وإن زارت إبداعاتهم مكن الطباعة.
ابحثوا عن الإبداع الحقيقي، لا تسلموا رؤوسكم لتجار الورق المطبوع، لا تلهثوا وراء قوائم الأعلى مبيعًا، وتنخرطوا في وهم الطباعات المتعددة. كونوا سندًا لمن يحتاج السند، وداعمًا لمن يستحق الدعم.
عزيزي أحمد الزناتي الذي لا أعرفه، لقد كان كتابك أرخص كتاب أشتريته في معرض الكتاب هذا العام، وربما العامين الماضيين أيضًا، ولكن هو عندي أغلي من كل الكتب التي أشتريتها، لمحتواه القيم، ولأنه أضاء لي حجم الورطة التي نغرق فيها.
شكرًا لك
ألف شكر.