شباك

[شباك][twocolumns]

الماكينة ـ قصة

فوتوغرافيا ـ سيباستياو سالجادو

أشرقت الشمس على توتر في غرفة إدارة المصنع، الماكينة تعطلت عن العمل، بعد أن سافر المهندس إلى عطلة. أعلن مدير المصنع عن الخسائر المحتملة لهذا التعطل، فقرر صاحب المصنع الإعلان عن حاجته لخمسة آلاف عامل يتبرعون بالموت من أجل أن يعود العمل، لا خيار أمامه سوى تذفير "المكنة"، ذلك الحل المحلي بديلًا عن غياب العلم الذي احتكره المهندس لسنوات طوال.
عُلّق الإعلان على باب المصنع. تهافت العمال على حجز أماكنهم في موسم الموت الإضطراري، متقبلين تلك التضحية بصدرٍ رحب، اتقاء شر الآلة المعطوبة.
تلطخت الآلة بالدماء، لكنها لم تعمل.
"يبدو أنها لم ترتو كفاية بالدماء"
هذا ما تيقنه صاحب المصنع، لم يحاول الإتصال بمهندس الماكينة لحثه على قطع أجازته والعودة سريعًا لمباشرة مهامه، رأى أنه من الأقرب والأيسر الإعلان عن طلب خمسة ألآف عامل إضافي، لرميهم في فم الماكينة الغول، ربما ترضى وتدور.
اقترح أحد الموظفين بالإدارة تخفيض عدد المتطوعين للموت، بإنتقاء أصحاب الكروش المنفوخة والأبدان الضخمة لرميهم في الماكينة، وجهة نظره أن نفراً واحدًا بتلك المواصفات يعادل ثلاثة أنفار من الأشخاص العاديين، أو لنقول المطحونين، حتى نكون صرحاء.
"الماكينة لا تقوى إلا على هرس الأبدان النحيلة الضعيفة، احشد خمسة ألآف نفر فوراً"
هكذا رفض صاحب المصنع الاقتراح.
في بهو المصنع، عَلّق المدير  إعلان عن فتح باب التقدم لموسم إضافي من موت الإضطراري، فوجد أن التهافت الأول على الموت خفت، بعد أن وجد العمال أنه لا جدوى من الموت والتضحية.
"لا بد من تحفيزهم على الموت، أخلق لهم حافز"
هكذا همس أحدهم في أذن صاحب المصنع، مبديًا النصيحة.
بدّل مدير المصنع الإعلان، بعد تعديلات صاحب المصنع عليه، ليتماشى مع النصيحة المبتكرة، من وجهة نظره.   
"فرصة. مت الآن، واترك لأولادك معاشًا سخيًا، وعيشة رغدة، لن ينالوها في حياتك، الموت حالاً بفوائد عالية، اخدم المصنع ومستقبل أسرتك، ضح، ولهم الأجر"
تهافت العمال لاغتنام فرصة الموت، طفحوا سنوات عمرهم الطويلة داخل أبدان هزيلة منهكة، سعيًا لعيشة كريمة لعوائلهم عزّت عليهم، والآن وجدوا حلمهم يتحقق.
"ما جدوى النظر في وجه أولادي، وهم معذبون في الفقر ويلوكهم العوز، ما فائدة سُكنة حضن زوجتي وأنا عاجز عن توفير حياة تليق بها، ما فائدة الحياة الشحيحة في حضرة الموت السخي"
تلك هي دوافع زبائن الموت الاضطراري.
دارت "المكنة" دورة الموت، الصمت خيم على الحضور، الآف العمال يحبسون أنفاسهم، وهم يسمعون طقطقات عظام رفاقهم تتصاعد بتؤُدة من المكنة التي لا تعرف الرحمة، الدم يفور من الفوهة، أحمر، طازج، ذلك في البداية، لكنه سرعان ما يتغير لونه إلى السواد القاتم، بعد أن يصنع تجلطه رسوم ثعبانية على جدار الماكينة من الخارج. 
انتهى الفرم، والماكينة لم تفق من تعطلها، الأزمة تتصاعد، وصاحب المصنع مازال يفكر في حيل أضافية من أجل عودة المصنع لحالته ولو على رقاب جميع من يعملون في المصنع.
"لا حل سوي الالتجاء للمهندس لإصلاح عطل الماكينة، هذا هو عمله"
هكذا نصح أحدهم صاحب المصنع في غرفة الإدارة المدهونة بالتوتر.
"لا"
وكانت تلك الاجابة.
 "إذا ليس أمامنا سوي طلب دفعة جديدة من المضحيين"
ذلك اقتراح طرحه أحدهم على صاحب المصنع، قاله بلهجة حماسية، ونَفَس مخنوق خارج من رئة مدعوسة من ضخامة الكرش. رحّب صاحب المصنع بالاقتراح، متغافلًا عن حقيقة أنه لو قال للمقترح "ستكون أنت أول مَن سيرمى في فم الماكينة" سيرفض.
التف العمال حول الإعلان الجديد الذي علقه مدير المصنع، طالعوه بتعطش بالغ ونهم، يريدون معرفة نتيجة التضحية والدم. فصدموا.
لم يكن الإعلان سوى نسخة مطبوعة من الإعلان الاخير، التاريخ فقط هو الذى تغير، لم يتغير شيء سوى زحزحة الوقت والأيام، همهم العمال في تبرّم، لم يتقدم أحد ليغتنم فرصة الموت الاضطراري.
"إنه الوهم"
ذلك ما توصلوا له.
لقد ذهب رفاقهم إلى الموت من أجل حياة أفضل لأبنائهم، معاش إضافي، وميزات أخرى قال صاحب المصنع أنه سيوفرها لهم، لم تحصل أسر رفاقهم على أي شيء من هذه الوعود، فقط ورثوا الفقر ولقب اليتم، لقد مات رفاقهم بالغش، غشهم صاحب المصنع في الحياة، وخدعهم في الموت أيضًا.
التوتر كسى الوجود في المصنع، العمال في الخارج بدأوا يتكلمون، بعد أن كانوا يسمعون وينتظرون ويستجيبون لكل المبادرات، مدير المصنع قدم استقالته، فروفضت، وتكتم صاحب المصنع على هذه الحركة، حتي لا يبدو للعاملين أن هناك خلالًا في الإدارة.
اقترح أحد ذوت الكروش أن يقدم إغراءات أكثر  للعمال، نصحه بأن يشركهم في الإدارة، ليخفف من حدة انتقاد قراراته التي لا جدوى منها، وحتى يتمكن من ضمان انصياعهم لقراراته دون تزمر أو غضب، فتلك ليست لغة الشركاء.
إعلان جديد علق في بهو المصنع، التف العمال حوله وقرأوا.
"يعلن مالك المصنع، عن طرح نصف أسهمه على العاملين ليشاركونه في إدارة المصنع، على أن يكون ثمن السهم فرم أثنين من العمال لتذفير المكنة بغية دورانها"
حالة من اللغط والشد والجذب جرت في بهو المصنع، مناقشات حادة، ورفض تام وموافقة منحازة. قيّم معاوني صاحب المصنع الأمر على أنه مكسب، الأختلافات المتنامية ستخفف من وطئة الضغط على الإدارة، وربما يحدث انشقاقات بينهم تفضى إلى تموية وتمويع القضية.
فجأة هدأ صوت الخلاف، وعمّ المكان هدوء سمع له صدى في نفوس الماكثين بغرفة الإدارة، خبّط الباب خبطتين مؤدبتين، وفُتِح، فكشف عن ثلاثة عمال يطلبون مقابلة صاحب المصنع.
"لقد قبلنا عرضك المعلن عنه. هذه قائمة باسماء زملائنا الجاهزون للفرم، ومستعدون لتوقيع عقود الشراكة نيابة عن جموع الغمال"
هكذا قالوا لصاحب المصنع، ووافق بمباركة ودعم من نصحيه.
كان العمال قد أتفقوا فيما بينهم على أن يعوضوا ذوى الضحايا بتعويضات تليق بهم، وأن يرعونهم رعاية كاملة، فأقبل العمال على الموت مطمئنين كون أنهم لن يعودوا عارين الظهر أمامم خداع صاحب المصنع.
دارت الماكينة دورتها المؤلمة، وتعالت طقطقات العظام، وأفصح صوت اللحم المهروس عن نفسه، وطرطش الدم.
انتهى الأمر والماكينة لم تدر.
علق مندوبي العمال منشور إداري في بهو المصنع، يعلن عن اجتماع هام مع شريكهم (يقصدون صاحب المصنع)، لبحث تطورات أزمة الماكينة.
لم يكن صاحب المصنع يعرف بهذا الأجتماع، فقط أُعلِمَ به من خلال هذا المنشور.
على الطاولة، جلس صاحب المصنع ومعاونيه، وفي المقابل ممثلوا العمال الذين أصبحوا شركاؤه.
قالوا له:
- ما العمل؟
- أبدًا الماكينة تحتاج مزيدًا من التضحية!
- عظيم، فلنضحى معاً
- معاً!، ماذا تقصدون بـ "معاً"؟
- نقصد أنّ التضحية ستكون مناصفة بيننا، ألسنا شركاء؟
- لا!، نعم!، نحن شركاء، ولكن لم نتفق على مناصفة التضحية!
- نحن لم نتفق على أيّ شيء، إننا شركاء في المطلق، والتضحية لا بد أن تكون مناصفة وفي المطلق، كما المكسب تمامًا!
- أعطونى مهلة للتفكير.
- ليس لدينا رافهية الوقت. لم يعد هناك مساحة لأى خسائر إضافية.
نظر صاحب المصنع إلى حاشيته باحثًا عن مقترح جهنمي في وجوههم يخرجه من هذه الورطة، لكنه لم يجد أحد يطالعه!
نظر مجددًا لممثلي العمال، وقال:
- من عندي سأقدم هذا الرجل، وهذا وهذا...
وأشار  صاحب المصنع إلى مديره ورجلين من ذوات الكروش المداومين على التقدم بالنصائح له في الماضي، وأردف:
- لكن مقابل كل رجل منهم ستقدموا ألف من العمال، هذا شرطي.
نظر ممثلى العمال لبعضهم في صمت ثم قالوا:
- موافقون.
"لا، لا، لسنا من الملاك كي ندخل في سباق التضحية"
قال ذلك الكلام صارخين الرجال الثلاثة الذين اختارهم صاحب المصنع.
عاجل ممثلوا العمال صاحب المصنع قائلين:
- هااا، ما قرارك النهائي؟ إنّ مَن اخترتاهم يرفضون التضحية، والتضحية لا بد أن تكون برضى المتطوع، ولكن واجبة لصاحب الشأن! لقد قبلنا اختيارك وشروطك، وإن لم تقدم حلًا أخيرًا سوف نصدر نحن القرار.
نظر صاحب المصنع إلى معاونيه في توتر وغضب، ثم تفتق إلى ذهنه حل قاله بسرعة:
- إذا نتصل بالمهندس من أجل إصلاح تعطل الماكينة.
-  لا، لقد فات أوانه، ألآف الرفاق زججت بهم للموت، من أجل إصلاح عطب الماكينة، وكان موتهم عندك أبسط من استدعاء المهندس، إذا، لم يعد المهندس حلًا، وسنلقي بك أنت في الماكينة، وفي مقابلك سنضع من جهاتنا "دبدوب" فرو لطفل ضحيت بوالده في تلك الماكينة.
صرخ صاحب المصنع.
- لا، أنا أرفض اقتراحكم.
- لقد مضى وقت الرفض، فعلى مَن بدأ بحور الدم، أن ينهيها.
تجمع العمال وأخذوا الرجل من وسط زمرته التي ذابت، وتلاشت، في فورة التملك، ووضعوا مالك المصنع في فوهة الماكينة، وتعالت صيحات عظامه المطقطقة، وجلجل صوت اللحم المهروس.
فبرأت الماكينة من العطب، ودارت.

 قصة ـ أحمد الرومي

برواز

[برواز][bigposts]