الارتطام ـ قصة
فوتوغرافيا ـ عمر الطحان |
لم يعد قادرًا إلا على السهر، أحب الوحدة والعزلة، التي تغلفه بعيداً عن الانفعال الحياتي الفج، الذي يتقاذف في وجهه، من أفواه مَن يعرفهم ويقابلهم في حياته اليومية الاعتيادية. يكره الوقت كلما زحف ناحية الفجر، فهذا يعني أنّه قد حان موعد انتهاء الليل.الساعة السابعة صباحًا أنهكه السهر، وجلسته المنكمشة في طرف السرير. لملم أغراض السهرة المتناثرة حوله؛ أكواب الشاي المستعملة، مطفأة السجائر المكدّسة بالأعقاب، الورق الممزق الحاضن إخفاقاته في الكتابة. إضافة إلى كتب ومجلات لا يقرأ أيّا منها، لكنه يتبرك بوجودها بجواره، إذ يساعده منظرها على استنهاض الإلهام بداخله.
تلك هى عقيدته.
مدد جسده النحيل في بطن السرير، نظر إلى السقف، راقب الشروخ الضعيفة التي ضربت "البياض"، أحس أنّ تلك الشروخ تمتد إلى داخله؛ وأنها تتسع شيئًا فشيئًا، ليخرج منها حيوانات منقرضة؛ مفترسة؛ تلتهمه دفعة واحدة. تخيل نفسه محبوسًا داخل بطن أحد الوحوش. جو خانق، مظلم، زلق، ضيق، ومفرمة الأمعاء تبدأ في عملها الديناميكي، مجموعة من الانقباضات والانبساطات كفيلة بأن تهضم أي شيء يدخل هذا التجويف الخطر، أيّ شيء.
أخذ نفسًا عميقًا؛ أخرجه من هذا التخيل المقبض. انقلب على جانبه الأيمن، فسقط وجهه على الحائط بزاوية 90 درجة. سرق نظره جرح في الدهان يكشف اللون القديم للغرفة، في زمن ما قبل الطلاء.
تذكر أشياءً ما كان يريد أن يذكرها، حبّه القديم. أوجاع أهله المستعرة. عمره الذي مرّ سريعًا. شبابه الضائع، وغيرها من الذكريات اللزجة؛ فأستحال ذلك الخربوش في الحائط إلى بئر غويط سقط فيه. حيث الظلمة، البرد، الوحشة، منتظرًا السيّارة الذين سيخرجونه من البئر. ليكون حلقة جديدة في حكاية "الذئب البريء" الطويلة.
خطف ذهنه من هوة الخيال، وقَلَبَ جسده ليستقر على جانبه الأيسر. نظر إلى الساعة التي شارفت على الثامنة. أحس أنّ الشمس ساطعة، حيث أنّ ضوئها القوي يخترق فتحات الشيش المغلق بإحكام، ليعبر مسام الستائر الثقيلة التي اختارها بعناية عندما حاول تجديد أثاث بيته القديم. القديم جدًا.
ثمّة علاقة وطيدة بين البيت وبينه. هو يشعر بأنّه هذا البيت، أو أنه (أي البيت) تَطَبّع بطَابِعه، يجمعهما العمر، والتصابي بالحداثة. كلاهما ينكر الأيام. كلاهما يعرف ـ على إستحياء ـ أنّ الوضع ليس على ما يرام. وأنه لا بد من عملية ترميم حثيثة للأساسات حتى لا يشرفا على الانهيار، الانهيار الكامل.
صلب عوده على الأرض، اتجه ناحية النافذة وأزاح الستار، فتح الشيش ونظر إلى الشارع، اشتم بروحه رائحة الشتاء المعبّقة في الجو. أراحه الإحساس، رغم عداؤه الشديد للشتاء. ذلك العداء الناجم كون أن ذلك الفصل هو الوحيد الذي رسخ بداخله معنى ألآلم وفكرة الوحدة التي أصبح يستلذها. يكره الشتاء لأن الشتاء ملك الوحدة والتوحد. وأحب الوحدة في معزل عن الشتاء. كما لو أنه يتصيد للشتاء أخطاؤه.
إلى هذه اللحظة كان كل شئ يسير طبيعيًا، رغم الألم. إلا أنّ شيئًا فُجَئيّاً قد حصل، غيّر بداخله طعم الحياة. حين ارتطم بذاته، في مرآة الحمام، بعد توجهه إلى المرحاض.
قصة ـ أحمد الرومي
Labels:
دفتر