«شرابى» الذي علّمَني الغضب!
الصورة من الإنترنت |
كَبَشَ شعر مقدمة رأسي بقبضة يده، وأحكم غلقها بقوة، وأخرج من جيبه، باليد الأخرى، مقصًا صغيرًا من النوع الذي يطوى ويبسط. ثم جزّ ما جمعت يده، ورماه أمامي على الأرض، وتركني ومضى بهدوء الميّتين.كتب ـ أحمد الرومى
لم أجد تفسيرًا لفعلة «الأستاذ فتحى شرابي» مدرس الجغرافيا، الذي قرر أن يشوّه شكلي الطفولي، أثناء فسحة أحد الأيام الدراسية للمرحلة الإعدادية.
عند الحلاق عالجت ما شوهه هذا الـ«شرابي». كنت أراقب بحسرة مقص الأول وهو يكمل ـ مرغمًا ـ مسيرة جزّ شعري البرىء، ليخفي ما اقترفه مدرسي الملووث. لم أقتنع بالحيثيات التي أرساها «شرابي» ليبرر جريمته: «شعره طويل وعامل زيّ البنات».
أتذكر أنني لم أغضب في حياتي مثلما غضبت من هذا الاعتداء.
وقتها قررت الانتقام. عزمت أن أشرُم فروة رأس «شرابي»، بطوبة أصوّبها نحو دماغه، عن بُعد. يصعب معها رتق جرحه إلا بإزالة شعره بالكامل. لكن أمّي ردتني عن هذا الفعل بدافع «صفح المقتدر».
كان «شرابى» يظن أنه حاكم الكون، وليس مجرد مدرس مهمش في مدرسة لا تقدم علمًا لطلابها بقدر ما تقتل فيهم الحياة. كانت تلك المدرسة هى منظومة فريدة للفشل والقهر والقمع والتسيب والاستهتار.
كنت كلما أسمع مدير المدرسة يتكلم في طابور الصباح عن النظام والاجتهاد والعمل والجد والانجازات التي حققها على مدار العام الدراسي، كنت أجتهد في كتم ضحكى، كان كذابًا محترفًا، يبيع الوهم للطلاب، ولا يقوى على مواجهة فشله في أن يكون ناظرًا محترمًا لمدرسة مُعدّة لأن تصنع أجيالًا صحيحة، لتنفع هذا البلد وتبنى مستقبله.
كان «شرابى» مدرسًا في منظومة عفنة. تجرع فسادها وطرشه في وجوهنا ألوانًا من الغبن. فكيّل لنا سوءاته أفعالًا عنيفة، قاهرة، ليعوض بها نقصه ويرسخ سطوته المتهالكة وسلطانه البليد. فكان على شفا أن يصبح «شرابى ذا الرأس المشروم».
عندما تجبّر «شرابى» كان في مخيلته، القاصرة، أنه لن يقدر عليه أحد، لم يعرف أن «العيال»، وإن كانوا أبرياء، لهم حركاتهم العنفوانية، القادرة على المجابهة. وإن تلخصت هذه المواجهة في النيل منه ومديره والمنظومة كلها، بالسخرية الناعمة.
لم يعلم «شرابى» أنّه استطاع (بحركته الموتورة) أن يكبدني خسارة شعري بعض الوقت، لكنه لم يقدر على تشويهى فترة طويلة من الزمن، بل ما أحرزه هو تشويه صورته لديّ إلى الأبد.
استطاع «شرابى» أن يجعل نفسه أيقونة للظلم والاعتداء، رسخ بداخلي فكرة أن الدنيا بها إناس تفعل الشر بنفسِ راضية، باسم الإصلاح تارة، والبناء تارة أخرى، رغم أن القهر لا يعرف البناء، ولا الظلم يُصلح ما فسد.
لم يفلح الأستاذ «شرابي» إلا في كسب حنقى وحصد غضبي.
لقد خسر تلميذًا كان من الممكن أن يكون سندًا له، كان من الممكن أن يصبح هذا المقال مديحًا فيه، وفي أستاذيته النبيلة، ورشادة تصرفه، لكنه اختار طريقه منذ البداية، فرصّع ذِكرهُ بعاره وسوءاته.
كان لدى الأستاذ «شرابى» فرصة عظيمة للوجود النبيل، لكنه أبى واستكبر، وسخّر كل طاقته لصناعة الوهم بتصرفات طائشة. صحيح أن «شرابى» درّس الجغرافيا لعشرات التلاميذ، لكنه تاه في طرقات المدرسة، غاب عنه أنه معلم، لا فتوة، أستاذ، لا سجان لتلاميذه.
خسر «شرابى» كل شيء، سمعته، تاريخه، أهان نفسه باقتدار. والمؤكد أنه الآن غير منتبه لهذه الخيبة، بل قد يكون جالسًا الآن في بيته يعطي درسًا خصوصيًا لطالب نظير منحه درجات ليست من حقه، وقد يكون المقص الذي طواه يومًا ما لاغتيال معنويات التلاميذ مازال قابعًا في جيبه.
قد يكون هذا وضعه الآن، لكنه، في كل الأحوال، لن يتصور أبدًا أن أحد تلاميذه الذي مارس عليهم التعدّي والجور، جلس ليكتب مقالًا يخلد فيه جريمته التي اقترفها في حقه منذ سنوات ونسيها، لجهله أنّ المظلوم لا ينسى مَن ظلمه أبدًا، ولا يترك ظالمه مهما طال الزمن.
لقد أضاء «شرابى» في صدري طريقًا طويلًا للغضب، امتد حتى بعد أن تركت مراحل التعليم الثانوي والجامعي. لقد اكتشفت أنّ «شرابي» ليس مجرد مدرس ملووث فحسب، بل هو فكرة، وطريقة، وعقيدة، وسياسة، تسيطر على حياتنا، تقصّ لنا شعرنا يوميًا، وتدوس على شعورنا، وتجزّ أحلامنا، وتقبض على مصائرنا وأرواحنا، وتلوّعنا وتروعنا.
«شرابى» ليس مجرد مُدرس ملووث، «شرابى» طريقة حياة ونظام لا بد ينتهي.
Labels:
حكاوي