على تجاعيد الموج.. «صوتها» | قصة
لوحة كولاج من أعمال د. دلال مقاري باوش |
كل ما أتذكّره الآن سأغمس به فرشاة ألواني بحرية، لتنزاح إلى المجاز، مما يتيح لحكايتي الذهاب بعيدًا في عربات المعاني!
ذاكرتي على كفي تنبض بهواجسي، بريشة القلق تخطّ قدرها الجديد. ريشتي ـ المتصوفة ـ تبحث بذهنيّة الشخوص عن الحقيقة أمام الوهم، عن النور أمام الظلام، عن التأمل في أوراق الحياة.
قصة | دكتورة دلال مقاري
ذاكرتي تتوهج. أبصر فيها سكينة مطمئنة، يتردد فيها صوته بغصة رجاء، وآخر الوصايا التي رشقني بها «لا تطمئني إلى الموج!» وينفرد البحر أمامي مجعدًا بالموت.أُعيد الثقة لفُرّشاتي كي تَرسُم التاريخ بوصفِها تحديًا من الإحساس والرهافة والحلم،
وكل حركة ورفّة لون هي انتصار على الموت. إذ لا مفر من الذكريات تضئ السراج المعلق آخر النفق. تدق باب الماء، تجمد كموت شفاف.
فجر يوم بارد، وشاطئ الوداع الذي يتحدث لغتي، يحذّرُني من هدير البحر، ويقشر لوز الروح ليتركني عزلاء أمضي إلى طاحونة الطريق، يد صديقي ـ العاجزة ـ تجُرّني كي أعود، وترشقني بالوصايا ومخاوف النعش.
مركب الرحيل المنتظر لا يتسع لأحلامنا، نجلس على حواف سكّين المغامرة، وتتمدد أرواحنا في قبوِ الذاكرة. لا نحلم إلا به، ذلك الوطن الذي أفرغناه، ولم نفرغ منه!
قدّنا المنحني يخبئ الآمال في جيوبنا المثقوبة، نتلو دعائنا المؤجل ونبحر. للمتوسط وجه آخر لا يدركه سوى من لمس حدّ الموت. على تجاعيد موجة مخاوفنا ـ التي استيقظت لحظة وداعنا الشاطئ ـ عفّرت وجوهنا بحكايا ممزقة وشجون.
«يا رب السماوات، نجينا من الماء»
عينا طفل مهاجر مثلي، تعلقتا بفرشاة ألواني. أستعيد خوفهما المكسور وارتعاش ابتسامة ذبلت على وجهه. أرسم له بيتا آمنا، وأرجوحة، ودرّاجة، ورغيف خبز، وأمّـًا تنتظره على قصعة طعام، بعد رحلة المعارف في المدرسة. أفتح له نافذة خارج الاحتمالات.
الأمواج تدفع المركب إلى الجحيم، فاجرة، ترشقنا برذاذ كالزجاج المكسور، تهددنا بالخزف الأزرق ينفتح على الأعماق. كلما ابتلعنا طريق الموج، هزّني جوع ذكرياتي، وخطواتي المهزومة في أرض الحنطة، شهوتي إلى الحياة، تنزّ من جرحي المفتوح. أرشقه بالماء المالح كي لا أسقط في هاوية الندم. هل أعود؟
صدع في مركبنا يمنح للموت خيوط اللعبة؛ ليجلس وراء الدفة. ينحّي الكابتن من مكانه، ويقودنا إلى حتفنا.
ريشتي تقول: «الموت كان جالسٌ معنا طوال الوقت، يمزق شراعنا الأبيض. يهيء لنا المراثي ويجدّف بأحلامنا إلى الهاوية».
ذاكرتي ترتق ما تفسخ من روحي وتجهش بالتفاصيل: «هناك ولدت! هناك اشتعل الرصيف تحت تفتق حذائي، ونسلت روحي، وكسرت فرشاة ألواني بيد العاصفة، وهناك سقطت أتمرغ في بكاء ألواني، حين اشتعل مفرق صدري، وداستني نعال برائحة أعقاب السجائر، هناك صمتت أغنياتي وسنوات دُسّت خطأ في معطف عمري».
العاصفة تشتد، ويزبدّ الموج برغوة، كأنها جثث قد سبقتنا إلى مقبرة البحر!
قيء حامض يدور في أحشائي، ويقف على ممر ضيق في ذكرياتي «أقرع بوابات مدينتي المشتعلة. يارب، جفلت مهرتي والضباع التي تفلتت في زمن العنف وخفقان الموت، خدشت عناية الملائكة التي تحرسني وقصت ضفائر حكايتي! وعبأت رئتي بعويل مسموم».
هل أرحل؟
المركب يهتز في رقصة الموت الأخيرة، يعلو ويهبط، يرمينا في العتم. أسقط في تجاعيد الموج الفاجرة، أكزّ على شفتي ولغتي. أهبط، تسحبني نبتة سحرية بعيدًا إلى جوف الأزرق. أتمرّغ في أصداء مذعورة. أبحث عن حالي لأجمعني مجددًا في صندوق روحي.
البحر فخّ لين تغرقنا أمواجه، تبسط لنا كف الزبد، تتحرك لتهرسنا. الأمواج تدفعني وحقيبة ذكرياتي المثبتة على ظهري بعيدًا عن الشاطئ المنتظر. ذلك الشاطئ التَعَبْ من كبو حطام السفن وطوفان جثث الغرقى.
«مدينتي القديمة ذات الصباح الصافي، مرّغت وجهها الرملي بشحم البغض اللزج. تُزبّد به ماكينة الموت! تمدّ مخالبها إلى شروخ الجدار وأقبية الروح وحليب الأمهات، كلماتي التي ضلت طريقها إلى النبع انطفأت كنافورة ماء سُدّت عينها بصخور النيازك المشتعلة، تتطاير من كل صوب»
يا الله وكيف أرحل؟
يتردد صوت رفيقي في أعماقي الجامحة: لا فوز بالهرب!
يهزني جوعي إلى الهرب، وتنسكب الألوان الحائرة في البحر، تتبعثر في صمت، تمزجها فرشاتي المغامرة. أجدف، أسبح، أوقظ شهوتي إلى الحياة، كي لا أمنح الأمواج الجاحدة لحظة وداعي. فمازال لديَّ الوقت، كي تطمئن حكايتي وألواني إلى الشاطئ. لن أعلن هزيمتي. بل سأمنح فرشاتي وعدي لها بأن ترسم اللوحات خارج الاطار! لتشرد أحلامي من الباب المفتوح. من بعيد ألمح ضوء برتقالي، بيني وبينه ظلمة لا تغيب، وأشباح أربكت الصمت.
«لا فوز بالهرب!»
رنين صوته المعلق في أذني كحليةٍ قديمة، يتكسّر كسفينةٍ على صخورِ الشاطئ. أغمس فرشاتي في عنفوان ذاكرتي المجروحة، أضغط على تفاصيل الصور، لأزاحم الفراغ وأملؤه بخطوطٍ تهرب من دهاليزي.
«أخرج من دخان الكلام شاردة، للريح خطواتي، للكتمان صوتي، للأموات عويلي، وفرشاتي تُهدّهدّ حزني كي ينام. توقظ الموتى بغناءِ العندليب دقت حنجرته!»
أريد الهرب!
لا أجرؤ على الالتفات إلى الأطياف الضالة مثلي في عتمة الأمواج. هشّة تتلاشى في قبوِ البحر بحكاياها وأحلامها، ترفضها كل ضفة. البحر قبر لألواننا المختلفة، أحلامنا المختلفة، أصواتنا المختلفة، وصرخاتنا التي تُفزع الهواء بشهوتها للحياة.
أنزلق إلى الأعماق، أتلمّس مساماتي المتعبة. كم أنا متعبة، فرشاتي تلطخ الظلال، والقاع، والظلمة، بخيوطٍ من نور، وارفة كخطوات نيزك على وجه الماء.
ألملم زهور عمري في إناءٍ مكسور هشمته كلمة مستبدة!
أمسكي بي أيتها الفرشاة وليعلو صوتك الخافت. أيتها الألوان! اسحبيني وذكرياتي وحلمي الصغير من فمه المفتوح! من انحناءات الموج وعتمة الأزرق تنغلق على أصواتنا وذكرياتنا وأسرارنا.
«ياوطني، جفلت خراف أحلامي من الذئاب الضالة
تطرق بابنا الآمن
تدهن أيامنا بالقلق والحيرة
وتدفعنا إلى حكايا البحر»
أريد أن أبحر إلى هناك؟ متورطة بالأمل وبضفّة لا تفسر ألواني بالفجور منفتحة على لغةٍ جديدة، تربكني مفرداتها ولكن لا تحيلني إلى الصمت! سأرسم النهار بفرشاة، ألوانها لا تموت كمفارق الفصول. سأبتكر طرقًا جديدة لنحت الروح من السموم وقيء العافية والزهور الذابلات!
أدفع عني الموج، بفرشاة ذاكرتي، آخرون مرّوا من قبلي هنا، وتواروا في شحيح الضوء وحشد الزبد. ورق التذكار يجدف معي، في عودة إلى شاطئ مألوف، بلل خطواتي على الرمل، وأدخلني في فقاعة الألوان التي أعشق، خافت مثل صوت
الأصداف، تتنفس حكايا البحر.
جسدي لن يضعف، تهمس لي الألوان بتواطؤ! سينفلت لفكرة النجاة والضوء البرتقالي يقترب؟ هل أنجو؟
طوبى لمن علمني السباحة. الطفلة التي كنتها يلونها البحر برعشات السمك وحوريات الأعماق، طوبى لمن علمني السباحة.
عينا الطفل المهاجر مثلي، تتراقصان في تجاعيد الموج، جائع كان، أم ضللته قذيفة حاقدة؟ هو الآن يجمع بقايا لحنه القديم، ليغرد في فج عميق، عميق، عميق... على شفاهي لغة تصارع! وفرشاتي تنغمس بلغة أخرى؟
لم أصرخ كغيري «أغيثوني» لأنني تعثرت بين أفعال الماضي وحروف العلة! ما الذي يلضم العقد بيننا؟ غير الأفكار والهواجس تجرّ عربتنا إلى المقاصد. ألتقط أنفاسي المسمومة، برائحة لا تناسب البحر! وتطفو ذكرياتي على صفحة الماء.
«من نافذة حذرة مفتوحة على مقبرة لم تعرف بعد حدودها، أطل! كان يحمل أملًا لم ينطفئ في زيتون عينيه، كان يقطف تفاحة العمر، حين أطل! كان يحرث جثث القتلى وينقب في رؤسهم عن دهشة الموت، حين أطل! كان يرجم شيطان قاتله حين أطل! كان يمشط فوضى خطواته حين أطل؛ ليفتح القنّاص عينًا جديدة في رأسه المشغول على مهل بعناية الرب، عينًا جديدة فارت بموجة حمراء، وصرخة أضاعت طريقها إلى الألم!»
اليابسة تهزأ من غثياننا وتبتعد أكثر موشحة بالسواد، والقاع فم مفتوح وتابوت يحصي المكاسب، طامع بالمزيد! رائحة البحر الجديدة تثقل شهيقي، هل هي الأجساد التي تفسخت قبلنا؟ هل هو القيء الحامض في أحشائنا الملتوية؟ هل هي رائحة احتراق ذاكرة هربت من قبضة ريح؟
نور زائف يتأرحج على صدر البحر، وذاكرة مجنونة تنفلت من رأسي تصارعني كي لا أستسلم لمكائد الموج.
«قهوتي الباردة، يغزوها العفن! قالوا لي مضت ثلاثة أيام، وأنا أتأمّل جثته المحنطة بموجته الحمراء! قالوا لي بأنني قبّلتُ العين الثالثة وقطفت عنها ريحانها الأحمر بشمع أصابعي! قالوا لي بأنني غنّيت ثلاثة أيام، أحتضن جسده المنطفئ، وأطحن النجوم المنهمرة من السماء لأحشوها في عينه الثالثة كي تضيء نيئة في نهار يتلوه بكاء! قالوا لي فنجان دمعك الصامت انسكب غماما، قرب نافذة، حيث أطل.»
هل أغادر؟
أتذكر المذاق الأول لفكرة الرحيل «الحلم تبعثر كثرثرة، في قبو البيت! وأوروبا بوجهها الباسم تبشرني بعالم جديد، سيصطخب في أوردة ألواني وفرشاتي. بغيابه غربت شمسي، على نافذة شهدت آخر طلة، وآخر رجفة، وآخر فنجان من القهوة، بقى ساهرًا في صمت قرب شفاه مضت قبل أن تغرق في ضفاف الهيل!»
يسُيجني البحر، بأنفاسهم عبرت صدفة على موجي، بصرخاتٍ تعلو كجدارٍ، ثم تهوي، بقلوبٍ أدماها الحنين، لغرفة هربت من الحكايا وغرقت بالياسمين. مياه مالحة توارى فيها آخرون من قبلي، تدخل أنفي وفمي، ولا احتمال للنجاة، ما لم تفتح أرواحنا، بوابة هشّمتها الطرقات؟
بما تبقى من رمق في فرشاتي الصاحية، أرسم الضفة المنتظرة، وصخور الشاطئ.
البحر يزبد بأكفان جديدة، يلهو بأوجاعنا، برقصة التانغو الأخيرة وبأحلامنا تكسرت كجناح، في خفة التحليق وهوت! الطائر الكبير يقترب، هديره يجلل أصوات العويل والصراخ التي يلفظها البحر بسأم؟ يرمي من جوفه حبال السرة! أو حبال الخلاص؟
الضوء البرتقالي، يسقط على وجه البحر كغطاء ليصمت نعيق الغربان وسؤال الموت المنحدر على حافة الهاوية.
أخرج من سرابي، ألامس جرحي المعتق في ضلوعي، تتفجر في الألوان، تطلقني مخيلتي إلى السفر حذرة أتعلق بحبال النجاة، أتفلّت من نبتة غادرة تشدني إلى الأعماق، يناديني صوت بلغة غريبة، يمدّ لي يدًا بيضاء، أصهل بشوق للكلام «ساعدوني» أرتلها بكل اللغات، أرفع إشارات في الهواء, أجمع أحرفًا ألتصقت في جوفي «ساعدوني».
رغبتي تهيم قليلًا في السماء، ثم تهبط مثل صراخ في إناء فارغ. تعلمت السباحة ترفًا في شواطئ بلادي، لتمنحني الآن فرصة كي أتسلق جدران أفكاري وأتحدى موتي البارد.
فرشاة ألواني لا زالت تعمل وتحلم. أغمسها في أفعال المستقبل والضمائر المتصلة، أغطي بها وجه البحر المجعد! أرسم بها نافذة، أطل منها وجه حبيبي، يومًا قبل أن يسقط في غرقه الأحمر.
أياد كثيرة تراءت لي تصعد بأمنيات مبتورة، ثم تتلاشى في الخزف الأزرق. طوق النجاة يتلقفني، ألونه بالبرتقالي، لون الحياة الجديدة؟ بلمحة قلق أودّع الموج، أحاول أن أستعيد رجاء صوتي لأبحث عن رفيقي الطفل المهاجر مثلي، ربما تحول إلى زنبقة سوداء في مقبرة المتوسط؟
أكمل لوحتي متوجسة من القادم! أرسم جثثا مزهرة، وأشلاء تنبت في موعد جديد، أدفن حزني عليهم، في لون برتقالي , وأوقظهم في عناوين جديدة، بفرشاة ما جفت ألوانها، أزيّن براءة إيحاءاتهم في ذاكرتي، أزيف الحقائق المُرّة، بزورق كبير يحتمي باليابسة، أجعله برتقاليًا يتسع لخيباتنا وأحلامنا وبراءة فهمنا وإخلاصنا للذكريات.
زورق النجاة، يسحب الألوان التي لطختها فرشاة ذاكرتي على وجه البحر، وتتوهج رغبتي غواية فاجرة بأن لا أتوقف عن الرسم.