شباك

[شباك][twocolumns]

«منحوت الجبل» حين يكون البطل الروائي معجوناً بالتاريخ | قراءة نقدية

الروائي أحمد محمد جلبي وغلاف روايته «منحوت الجبل»

تنطلق من أرضية ثابتة وبقوة دفع معقولة سنتوقع أن ترتفع رويدًا رويدًا حتى تستوى جناحاتك وتصير أعلى الهواء، هذا بالضبط هو مشهد افتتاح الرواية الذي يعطي القارئ القدرة على التحليق بداية من الصفحات الأولى، فتشعر أنّ هناك سرّ غامض.
بقلم ـ مهندس صابر عبد الحفيظ الجنزوري
روائي وعضو اتحاد كتاب مصر ونادي أدب مصر الجديدة


العنوان لا يرد على تساؤلاتك هذه بل يحيرك وتسأل نفسك ماهو المعنى هنا وماهو مغزاهُ هناك وأنا صابر مولع بحل شفرات الرسائل المبطنة والقراءة بين السطور، فذلك عجينة وصلصال تشكيل السرد القصصي الروائي للكتاب المخضرمين، وعتبات النص الأولى تجعلك تلج العالم القصصي الموازي لحياتنا الواقعية التي نحياها وبسبب كثرة القصص الاجتماعية والحقائق التي ترد في متن الروايات الان والتي غالبا تحمل كم هائل من ما حدث فعلاً سنحاول أن نفهم مغزى العنوان الذي يمثل غالبا بداية الخيط وربما لا تعرفه إلا مع اخر كلمة فى الرواية التي «تمت» بنهاية شبه مفتوحة ومغلقة في ذات الوقت، وهذا لعمري فتح أسلوبي ويشكل حدث في حد ذاته لرواية تبدأ مثيرة وتنتهي مثمرة، الفها عن بصيرة بمكنون أشخاصها الروائي الأستاذ أحمد محمد جلبي ليتركك تفكر وتستنتج وتسترجع كل الأحداث وكم المعلومات التي قدمها لك من التاريخ والعلم والعجائبي والغرائبي في أحداث مغرقة في الغموض والسيسيولوجيا والة الحرب الجهنمية للقوى العظمى في العالم المعاصر انها وثائق حرب تنبئك ان المعارك تتطوركحدث مفصلي في حياة الامم.

الرواية أحداثها تقع فى عقدين ماضيين خلال القرن الفائت ومعنين متضاضين ومتضامنين فالناقد يفكك بنية النص الذي يبنية الكاتب فتكاد تجزم وتشهد له بان التراكم المعرفي من الخبرات المتعددة والتجذر في المشهد الثقافي قد افادهُ الى حد التوفيق ومع أن الزمن وأحداث الرواية والتي تتم على زمنين بعيدين لا يجمعهم أمر مؤكد وجازم بحدوثه تبعاً لان الرواية عمل من صنع بنات الافكار الخاصة بالكاتب والروائي وأن هناك بين الفترتين ما يقارب المئة عام حسب تاريخ العودة للوراء لابطال الرواية ألا أن صلب السر الزمني هذا يكمن في تاريخ الحرب العالمية الثانية والذي ُمهد له ببراعة من خلال اطلالة القارئ على بعض احداث الحرب الكونية الأولى وعلاقتها باحداث اليوم.

ولنا وقفة مع الزمن الروائي الذي تنتمي إليه «منحوت الجبل» كفواصل زمنية فى عام ١٩٤٢ وفى عام ٢٠١٩ وما قبل ١٩٤٢ فهو هنا لا يحكي رواية تستغرق كل تلك الفترة الزمنية انه فقط ينقلك بالقصة من هنا لهناك وكأنها محطات قطار يربطها شريط السكة الحديد ولا يهم ان تتوقف في المحطات او تنزل فيها وهذا تكنيك فني عالي واعتقد انه اضافة غير مطروقة ابداً في كتابات الادباء ولذلك فإن كل محطة قائمة بذاتها ويوحى اليك بما قبل ذلك العام ويذكرك بالحرب العالمية الأولى ثم يربط الاحداث بعام ١٩٤٢ والحرب العالمية الثانية والاحداث التى تقع فى لندن وفى العلمين وفى الحصن الروماني القديم الذي ينتمي للاحتلال الروماني لمصر أوائل الميلاد لتكتشف فى نهاية الرواية ما هو وأين وما هي دلالته وتذكر ذلك جيدًا.

يأخذك الكاتب في لحظة لعالم بشر تحكمهم قوانين خاصة ليس في الروح ولكن في الاجساد التي تدب فيها الحياة ولرمزية ذلك يمهد بقصة الندوة ورواية الكاتبة كفاح عياش التي بعنوان بين قلبين والتي فعليا تعيش بقلبين من خلال روحها الواحدة، إنها رمزية غير اعتيادية تصلك بغير أن تنتبه لتلك الرمزية، لكنها تمهد لك أن تعرف شخصاً وتراه رجلا فى عنفوان شبابه ونضوجه ولكنك لا تعرف ان عمر هذا الرجل الذى لا اثر لشيب فيه ولا تجاعيد ولا انحناءات الجسد التي يتركها الزمن على البشر، فتظن أنه كهل بين عمرين متقاربين في شرخ الشباب؛ في حين أن عمرهُ حقاً وصدقاً مائة عام أو اكثر... كيف هذا وأي منطق لرواية واقعية جداً واحداثها تقترب كثيراً من التأريخ والتأصيل لاحداث وقعت فعلاً وليس محض خيال، وإذا سألت كيف، فعليك ان تتذكر قصة الرجل الذى مات مائة عام ثم أحياهُ الله وكذلك أصحاب الكهف وقصة الخضر عليه السلام وقصة نوح الذى عاش حوالى ألف عام!

ولعلك بعد ذلك قد تشك فيمن تتعامل معهم فربما كانوا من أصحاب «قوانين الجسد» الخاصة التي لا يظهر عليها ضعف أو عجز ولا تشيخ فتموت واقفة كالاشجار المعمرة، إذاً هناك قانون ما عجيب وهناك عوالم خاصة وهناك أسرار مجهولة! ويصحبك الراوي «العليم» الذي لا يظهر كثيراً في العمل معه بسلاسة ويمهد لك الأحداث وكأنك تشاهد عملاً سينمائياً لعب فية الحوار دوراً هاما في الافصاح والتلميح والتحليل والجدل المنشط للعقل وللقدرات والمقدرات الغرائبية وقدرات الابطال على الاستباط وعقولهم على التفكير المنطقي رغم أننا نتكلم عن رواية يلعب فيها الخيال دور ما من ادوار البطولة لكن المعرفة والعلم وحتى السياسة مرتبطين بالخيال، وقدرة خيالك النشط هذا على منطقة ما يحدث امامك واكتشافه وإن صعب.

غلاف الرواية

فى المشهد الإفتتاحى يقدم لك أبطال الرواية فى لقاؤهم على المقهى وحديثهم عن شخصية «طاهر» الذى من أصحاب القوانين الخاصة الخارقة – طاهر هذا فعلاً حقيقي ووضع عنه كتاب فعلا في الثلاثنيات من القرن العشرين- والذى له تجربة مع الموت أكثر من مرة وتحدى فيها الأطباء والعلماء ومات وقبر لمدة ٢٨ يوما موتاً اكلينيكيا بارادتهُ متمثلاً كل مظاهر الموت الطبية ومظاهرها على الجسد وهو في الواقع لم يمت والاغرب ان يظل هكذا لمدة تقترب من الشهر ثم عاد لممارسة الطبيعي من الحياة ويذكرك أيضا بشخصية راسبوتين وقواه الغير طبيعية في عصرهُ والعصور التي تلتهُ لدرجة ان يصير من غرائب الناس واكثرهم اثارة للجدل والذكاء هنا ان كلاهما في نفس الزمن تقريباً وكلاهما يوجد شهود ووثائق وتسجيلات وكتب وضعت لهذا بل ان تاريخيا راسبوتين قتل بكل انواع القتل وبغير ذلك ربما كان نجا وتعافى- مسموما مكتوما انفاسه مضروبا بالرصاص غريقا- ثم تشاهد دور الشطرنج الإيحائي بالعبارات عن موت الملك وذكاء اللاعبين فترى «مراد حسين» الدكتور الثرى الواثق بنفسه لدرجة اثارة واستفزاز من حولة إلا أنه يتمتع بثبات وذكاء انفعالي واجتماعي والذى يظهر بعد ذلك أنه بطل النص ومحرك الأحداث ثم يظهر اللواء أسعد الذى اقترب من التقاعد ثم الروائي مدحت الحسيني ثم الصحفى رجائي عازر ثم المحامى عاصم شلبي ومحمود علاوى مبرمج الكمبيوتر وأمجد المحاسب.. هؤلاء هم من ستجدهم معاً دائما حتى أخر الرواية.. فهل توجد شخصيات نسائية؟

توجد، هناك عائشة زوجة مراد والتى لها مثل ما لمراد من قانون خاص يحمي جسدها من تداعيات الزمن وتعدياتهُ وعادياتهُ ويالها من امنية غالية تود كل امرأة عصرية - بدون اللجوء لجراح تجميل- ان تكون لها؟ ثم تظهر شخصية الكاتبة «كفاح عياش الاردنية» ذات الاصل الفلسطيني، والتى لها رواية عجائبية داخل النص الروائي الاصلي، وتلك رمزية غير محسوسة ومموهة اجادها كاتب النص وتعرفها من خلال قراءتك للرواية ! كفاح يرتبط بها «اللواء أسعد» بعد قصة حب بدأت على الفيس بوك- يشير الكاتب الى تأثير تلك الألة الجهنمية على العلاقات بين الافراد حتى اولئك الذين لم تخترع لهم ولا لعصرهم- وفي هذا الارتباط إشارة وإسقاط بلا شك كما أن لإسميهما نفس الإسقاط الرمزي والإشارة والمعنى!

ثم تريزا اخت رجائي عازر الصحفي ــ الذي يُلمّح الكاتب أن له أسم أخر ينادي به، وهو أوفا ـ من وفائي ـ ولكن رجائي بدّل الاسم كصحفي ينشر لعلة ما أو لإخفاء شيء ليس من السهل الربط وحله كلغز على الماشي ــ ثم يحرك الأحداث فجأة ويضيف عليها سخونة وإثارة الصحفي المحترف، ونعود للأحداث الروائية التي هي صلب العمل عام ١٩٤٢ تجد مراد حفيد الباشا حسين رشدي دلالة الاسم هنا كبيرة، فنرى مراد فى لندن ونرى شخصية  دكتور جورج ماكسويل رجل المخابرات الذى ينجح فى تجنيد مراد ابن الباشا وحفيد دولة الباشا لعمل مهمة كبيرة فى مصر ضد الألمان لكنها لو فكرنا فيها جيدا سنجدها ضد مصر أيضاً، لكننا لا نحس ذلك من تماسك البناء الروائي المصنوعة منه الرواية خاصة وهو يمهد لعمل كبير إذا ما نجح الألمان فى هزيمة الإنجليز والدخول للقاهرة فمراد سوف يكون فى ذلك الحين حصان الشطرنج والوزير والفيل الرخ او الملك البديل للحظة سقوط الملك الحالي عام 1942 والذي بالمناسبة حاولت بريطانيا ارغامه على التنازل عن العرش في حادثة 4 فبراير الشهيرة ولذلك يتم الاحتفاظ بمراد كورقة رابحة للنهاية، رابحة للاستعمار ولقوة بريطانيا العظمى التي خلقت دول من العدم واقامت زعماء قبائل ملوك وامراء، ونرى فى خلفية المشهد بلندن «براندا أو روث» الاسم الحركى لها بالمخابرات- عميلة الصدفة- والتى ترتبط عاطفياً بمراد ويتركها ويعلم بعد ذلك من ج. ماكسويل انها حامل منه.! فهل نجحت مهمة ماكسويل ومراد ومالذى حدث؟ كل ذلك بالرواية ويجعلك الكاتب فى حالة تشويق للمعرفة!

الروائي أحمد محمد جلبي

وينقلك الكاتب لعام ٢٠١٩ الفين وتسعة عشر اي بعد مرور اكثر من سبعة وسبعين عاما بظهور حفيدة جورج ماكسويل هذا الذي اختفى كل اثر له طوال تلك المدة وظهر اخيراً في الوثائق التي افرجت عنها السلطات الحربية البريطانية لنعرف اسرار الحرب العظمى على ارض الصحراء في العلمين والقاهرة وسائر بلاد الشرق الاوسط اسرار لم يتطرق لها أحد من قبل ولا هي مشهورة ومع ذلك خطيرة، وانا لا اقول ذلك مجازاً او روائياً ففعليا الوثائق هذه استند عليها الكاتب أحمد جلبي وهو يصنع العمل لدرجة انني شخصياً تصورت انه يتكلم عن ابطال حقيقيون وحدث بالفعل، وجاءت تلك الحفيدة لتبحث بالوثائق عن جدها وأين هو وماذا حدث له ولحملته، انها تبحث عن قبر لتقوم بتكريمة بما يستحق في خدمة بريطانيا العظمى او ان هذا هو غطاءها للولوج من جديد في عالم الشرق الاوسط، فى حين انك تقرأ ذلك ومراد مازال حيا يجلس معها ومع الأصدقاء ويحلل ويفند معهم الأحداث مع أنه كان شريكاً لجورج ماكسويل فى حملته عام ١٩٤٢م بل هو عماد الحملة ذاتها وبغيره لم تكن لتنجح وهو في حد ذاته يمكن ان يكون عميلاً اعد بعناية، لكن لا احد يعرف شخصيته تلك ولا يمكنهم الربط بينهما فذلك غير مقبول منطقاً ولا عقلاً في حين انك ايها القارئ تصدق وتعرفه،عازرالصحفى يقدم المبرر للبحث عن ما تريده مارجريت هناك مليون جنيه استرليني او اكثر لمن يقدم لها اي معلومات قد تؤدي وتكشف عما حدث لجورج ماكسويل العميل المختفي من بواكير الحرب العظمى الثانية وبحثت عنه كل الاجهزة بعد الحرب وعجزت عن ان تجده هل هذا معقول وكيف تم منطقية الاحداث هنا، والتي تجعلنا نعلم ان سر مراد اقيم كثيرا من سر اختفاء ماكسويل.

والاسم له ايحاء كبير لم يغفل عنه الكاتب والواقع أن الاسماء هنا في هذه الرواية منحوتة بدقة كما لو انها من احاجي اللغز ذاته.. هل قلت لك باقي الاسماء أم أتركها لبديهتك! وتمضى الأحداث مشوقة حتى النهاية التى تكتشف من خلالها أشياء مخيفة واخرى لا تخطرعلى البال وكأن مخططات ومخصصات التلاعب بالدول والشعوب بدأت مبكرا جداً ولا تزال بغير تعديل تقريباً وتكتشف شخصية مارجريت الحقيقية ومن الوريث المذكور فى سجل ووثائق المخابرات البريطانية ١٩٤٢م، وتعرف كل شيء عن مراد وكيف طبق عليه القانون الخاص فى الحياة؟

ربما لا استطيع الكشف عن كل احداث الرواية ونهايتها وخاصة مدلول ورمز وتفسير «منحوت الجبل» كعنوان اختير عن بينة وأترك ذلك لمن يقرأ ويكمل الرواية التى كتبت بعناية ناقد لا يفوته شيء ولعله بعد ان أتمها قرأها كناقد واستطاع ان يضع يده على الهنات البسيطة فتداركها لكنك بعد أن تتم قراءة الرواية لا تستطيع إلا ان تسجل إعجابك بها.

برواز

[برواز][bigposts]